عصور ماقبل الميلاد
اختلفت الآراء في اصل تسمية عُمان فالبعض يرجعه إلى قبيلة عُمان القحطانية، والبعض يأخذه من معنى الاستقرار والإقامة، فيقول ابن الإعرابي: العمن أي المقيمون في مكان، يقال رجل عامن وعمون، ومنه اشتقت كلمة عُمان، ويستطرد فيقول: أعمن الرجل أي دام على المقام بعُمان
أما الزجاجي فيقول: أن عُمان سميت باسم عُمان بن إبراهيم الخليل عليه السلام، بينما يذكر ابن الكلبي: أنها سميت باسم عُمان بن سبأ بن يغثان بن إبراهيم خليل الرحمن لأنه هو الذي بنى مدينة عُمان. أما شيخ الربوة فيقول: أنها سميت بهذا الاسم نسبة إلى عُمان بن لـوط النبي عليه السلام، وقيل أن الازد سمت عُمان (عُمانا) لان منازلهم كانت على واد لهم بمأرب يقال له عُمان فشبهوها به
ومن أقدم المؤرخين الرومان الذين ذكروا عُمان بهذا الاسم يلينوس الذي عاش في القرن الأول للميلاد (23 – 79م) فقد ورد في كتاباته اسم مدينة تسمى عُمانه،
OMANAوكذلك ورد هذا الاسم عند بطليموس الذي عاش في القرن الثاني للميلاد، ويظن جروهمان أن عُمانه المذكورة عند هذين المؤرخين هي صحار التي كانت تعد المركز الاقتصادي الأكثر أهمية في المنطقة في العصر الكلاسيكي
وقد عرفت عُمان بأسماء أخرى، فقد أطلق عليها السومريون ودول بلاد مابين النهرين اسم (مجان)، ربما نسبة إلى صناعة السفن التي تشتهر بها عُمان، حيث ورد في النقوش المسمارية بأن مجان تعني هيكل السفينة، كما سماها الفرس باسم (مزون)
وورد اسم عُمان في المصادر العربية على أنها إقليم مستقل. فقد أشار الاصطخري وابن حوقل إلى ذلك في قولهما: و عُمان ناحية ذات أقاليم مستقلة بأهلها فسحة. أما ابن خلدون فقـد كان أكثر وضوحـاً في تعريفه لعُمان، فقد ذكرها في جملة الأقاليم العربية التي ظهرت كدول مستقلة في جزيرة العرب وهي اليمن والحجاز وحضرموت والشحر و عُمان، ووصف نظام حكمها، فقال بأنها (إقليم سلطاني منفرد)
ومهما كان الأمر، فأن اسم عُمان كما هو ملاحظ يعود إلى عصور تاريخية قديمة، وإذا رجحنا أن عُمان حملت هذا الاسم نسبة إلى واد في اليمن يسمى عُمان، أو إلى قبيلة يمنية تحمل نفس الاسم، فان ذلك يدل على قدم الهجرات العربية التي توالت من اليمن إلى عُمان، والى أن عُمان كانت تصطبغ بالصبغة العربية منذ أقدم العصور
والحديث عن تاريخ عُمان في العصور القديمة ذو شقين، يتوجب الشق الأول منه الاستفادة من المصادر المدونة، وبخاصة كتابات الإخباريين والجغرافيين منها، ولكن هذه المصادر لا تستطيع التوغل بالباحثين في أعماق التاريخ العُماني
أما الأحداث التاريخية ونشاطات العُمانيين خلال العصور الحجرية القديمة أو الحديثة، أو خلال العهود التاريخية منذ مطلع الألف الثالث ق.م وما بعدها، فقد كان حالها مثل حال كثير غيرها من مناطق الجزيرة العربية والخليج، مجهولاً تماماً. وكانت بعض المعلومات المتفرقة التي تتساقط من بين ثنايا الكتابات المسمارية تشكل بصيص الأمل الوحيد أمام الباحثين للتفتيش عن ماضي الأحداث لهذه المنطقة الهامة من مناطق التمدن البشري القديم
إن العقود الأخيرة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية دفعت بالدراسات التاريخية القديمة للخليج والجزيرة العربية، والمعتمدة في الأساس على المصادر المسمارية العراقية القديمة، لتتبوأ مكانة هامة على صعيد الدراسات التاريخية والأثرية، مثلما شجعت علماء الآثار والمنقبين لبدء أعمال تنقيبات أثرية واسعة في شتى مناطق الجزيرة العربية، وعلى الأخص مراكز الاستيطان القديم على الأطراف وفي الواحات ومناطق السواحل، وهي التي توفرت لها إشارات نصوصية عديدة تشير إلى انهماكها في نشاطات ملاحية وتجارية واسعة
وهكذا أعانت المصادر المسمارية على البدء في قيام مرحلة جديدة من دراسة التاريخ العربي القديم عموماً، والتي يحتل التاريخ العُماني فصلاً هاما منها. وتعد أعمال الاستكشافات والتنقيبات الأثرية الشق الثاني من الحديث عن تاريخ عُمان القديم، بخاصة وان النتائج التي أسفرت عنها الجهود الخيرة التي قامت بها حكومة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم أثبتت بصورة قاطعة عراقة وأهمية التاريخ العُماني القديم ودوره في بناء الحضارة الإنسانية ودعم مقوماتها بعناصر التواصل والدوام
وتجدر الإشارة في هذا الخصوص إلى العناية الفائقة التي تبذلها سلطنة عُمان، في مجال الدراسات الأثرية حيث تعتبر مجلة الدراسات العُمانية - The Journal of Oman Studies - التي تصدر عن وزارة التراث والثقافة في سلطنة عُمان خير دليل على ذلك، فقد صدر العدد الأول منها في عام 1395هـ - 1975م ولا تزال تواصل الصدور، وتعد بحوثها وتقارير البعثات الأثرية المختلفة العاملة في عُمان، من أهم المراجع وأوثقها بخصوص التاريخ والحضارة القديمين لهذا الركن الهام من الوطن العربي
وعُمان تحتل الأجزاء الجنوبية الشرقية من شبه الجزيرة العربية، فهي تطل على البحر العربي وخليج عُمان وتشرف على مضيق هرمز الذي يربط الخليج بالمحيط الهندي ويعد حلقة الوصل الرئيسية. ورغم أهمية عُمان في شؤون الملاحة والمواصلات البحرية، فإن علاقـاتها ببقية أقسام الجزيرة العربية تعززت خلال الفترات المبكرة للتاريخ العُماني من خلال طرق بـرية نشطة، وجدت تأكيداً لها في عدد من المخلفات الأثرية
وإذا كانت الإشارات النصوصية المسمارية تؤكد على أهمية مجان (عُمان) في تصدير النحاس إلى العراق، وهـو الأمر الذي توفـرت دراسات أثرية حقلية في عُمان لتأكيده في السنوات الأخيرة. فأن التاريخ والحضارة العُمانية القديمة يشكلان جزءاً من النشاط التاريخي والحضاري العام لمنطقة الخليج، والذي لعب الطريق القديم بمراكزه الحضارية دوراً بارزاً في صياغة مكنوناته. وتعد هذه النظرة المنهجية المدخل الصحيح لدراسة التاريخ العُماني القديم
كانت الملاحة العُمانية القديمة تتميز عن غيرها من مراكز الخليج بعظمة سفنها، وربما أيضاً لأهمية تجارتها من النحاس الذي كان يجد أسواقاً رائجة له في مدن بلاد وادي الرافدين. فالنصوص المسمارية تقرن مجان بسفن معينة تدعوها، سفينة مجان، ولكن الإشارة النصوصية التي تذكرها وهي في قصيدة سومرية تتعلق برحلة جلجامش إلى ارض الحياة، أريد من ورائها أن تكون سفينة مجان مثالاً لأعظم السفن وأشدها. ويتأكد هذا الفهم للسفن المجانية من مقدمة قانون أورنمو التي يتفاخر فيها بتمكنه من إعادة هذه السفن لترسو في رصيف مدينة (أور) والإكثار من ترددها وجعلها مشهورة. ويبدو ذلك منطقياً من نوع البضائع التي اقترن ذكرها في المصادر المسمارية بمجان وأبرزها النحاس والحجارة والأخشاب. وبذلك يمكننا القول بأن شهـرة البحرية العُمانية في القرون القليلة الماضية تستند إلى خبرة ملاحية طويلة تستمد مقوماتها من تاريخ عُمان القديم، مع ملاحظة المتغيرات في الاتجاهات والرحلات ومواد التجارة بين زمن وآخر
كما أن نصوصاً أخرى من زمن سرجون الاكدي جد نرام سين، تتحدث عن مزيد من السفن المجانية (العُمانية) التي وصلت إلى بلاد أكاد. حيث يتناسب ذلك مع وجود دولة قوية مزدهرة في عُمان تنشط على يديها الأعمال التجارية والملاحة البحرية الواسعة، وقد ذكر المؤرخون أنها دولة" قاد"
أما المنطلق الثالث لدراسة التاريـخ العُماني القديم فيتوجه صوب استكشاف الأهمية الاستراتيجية التي احتلتها عُمان على صعيد العلاقات العربيـة من جانب، وبينها وبين العالم الخارجي من جانب آخر
وعندما تعطلت الملاحة في البحر الأحمر نتيجة لانتشار الصخور المرجـانية على سواحله ولعدم توافر الرياح المواتية نشطت تجارة القوافل العربية التي نقلت البضائع من الموانئ اليمنية في الجزيرة العربية إلى أسواق الشام ومدن ساحل البحر المتوسط ومصر
ولكن تجارة القوافل العربية هذه لم تكن لتحقق هذه المكانة والأهمية في تاريخ الاقتصاد العربي القديم إلا بفضل تدجين الجمل سفينة الصحراء الذي أصبح منذ مطلع الألف التاسع ق.م. حيواناً عربياً مستأنساً على نطاق واسع يخدم عملية النقل والمواصلات بين أقسام بلاد العرب من جانب، وبينها وبين مركز الحضارات على إطرافها في العراق والشام ومصر من جانب آخر
وبسبب موقع بلاد عُمان الذي تفصله صحراء (الربع الخالي) عن بقيـة أقسام الجزيرة العربية، والى وقت تدجين الجمل في الألفية التاسعة قبل الميلاد، فإن معظم النشاطات التجارية والملاحية العُمانية كانت موجهة صوب مناطق الخليج وبلاد وادي الرافدين من جهة واليمن وشرق أفريقيا والقارة الهندية من جهة أخرى وهو ما تؤكده المصادر المسمارية ونتائج أعمال التنقيب الأثرية في المراكز الحضرية القديمة
وقد بدأت تتكشف مجاهل تاريخ عُمان القديم أمام البعثات العلمية للتنقيب عن الآثار، وترجع أقدم الآثار التي وجدت على الساحل العُماني الشرقي والغربي إلى الألف الخامس ق. م. وهناك دلائل واضحة على تشكل مجتمعات صغيرة في عصور مبكرة من التاريخ على ارض عُمان تعود إلى الألف السادس قبل الميلاد، كشف النقاب عنها في مـوقع القـرم في محافظة مسقط، حيث عثر على مقابر وبقايا أطعمة وأمتعة شخصية… فقد عاش معظم سكان ذلك الموقع على استخراج المواد الغذائية من الأسماك والمحار من الشواطئ القريبة بينما كان آخرون صيادين عاشوا على قنص الغزلان من الوديان ومن أعماق المناطق الداخلية… ويدل وجود آثار القبور على وجود مؤسسـة للحياة الدينية لها طقوس معترف بها، أما العثور على حلى للرجال وللنساء فيقدم دليلاً على بلوغ درجة ما من التقدم التقني
أدت الاكتشافات الأثرية في سلطنة عُمان إلى انتشار ما يعرف بمقابر خلايا النحل في كل من بات بالقرب من عبري في منطقة الظاهرة وموقع إبراء في المنطقة الشرقية من عُمان ومما يلفت النظر في بناء هذه القبور، التقنية المتبعة في تغطية السقف القببي الشكل بالحجر الكلسي، وتقسيم داخل القبر إلى حجرتين أو ثلاث… وفي هذا كله تعبير مادي عن معتقدات دينية انعكست في التقاليد الاجتماعية وفي الحياة اليومية للناس، ينبغي البحث عن مصادرها والعوامل المؤثرة فيها
فإذا أضفنا إلى الكشوف الأثرية في بلاد الخليج ما كشف عنه في تبة يحي في كرمان وباجور في بلوخستان، كان بالإمكان إعادة رسم طرق الاتصال والتبادل بين الحضارتين الكبيرتين اللتين قامتـا على ارض الرافدين والجزيرة العربية (سـومر واكاد)، وفي وادي السند… وقد كان لديلمون في شمال الخليج ولمجان جنوب الخليج دور كبير خلال أكثر من ألفي عام من التاريخ القديم في تأمين هذا الاتصال، ويلاحظ فريق من الباحثين الألمان أن تحرك دول الرافدين في الخليج للحصول على المواد الأولية يقابله تحرك مصري في الخليج المقابل (البحر الأحمر) للوصول إلى منتجات بلاد بونت (ساحل بحر العرب والساحل الإفريقي المقابل).. وفي هذا التحرك المتبادل بدأت تتشكل في الألف الأول ق.م. أسس حضارة جديدة في عُمان تقوم على تجارة البخور بما فيها اللبان والمر والطيوب ونقلها بين المحيط الهندي وحوض البحر المتوسط
وتكشف التقارير العلمية التي نشرت عام 1987م عن محصلة التنقيبات الأثرية التي أجريت في بعض مناطق عُمان (المنطقة الوسطى من الباطنة) خلال عقد من السنين، ما سبق ذكره من وجود خلفية تاريخية قديمة لتشكيل مجتمع له فعالية اقتصادية سياسية وكيان سياسي منظم للتعامل مع الدول والمجتمعات الأخرى
وتؤكد الدراسات العلمية أن عُمان تحتوي على كميات كبيرة من النحاس في شمال البلاد، كما دل على ذلك أيضاً تحليل الصخور المخضرة وظهور سيليكات المغنيزيوم المهدرجة فيها، وكان النحاس يستخرج بسهولة من الصخور ومن مناجم محفورة في العصور القديمة، كما أمكن استخراج بعض أنواع الكبريت. وتقع منطقة التعدين وراء المنطقة الزراعية بنحو خمسة وعشرين كيلومترا من الساحل، على سفح جبال الحجر الغربي. ودل العثور على آثار حجرية في المنطقة على استقرار مجتمعات صغيرة في مطلع الألف الثالث ق.م. في الظاهرة عملت في التعدين. وكانت المواد الأولية تستخرج من المناجم، ويصهر المعدن في مصاهر بسيطة، وبنيت مساكن بسيطة لتأمين استقرار العمال
وقد استمر استغلال هذه المناجم في عُمان إلى العصور الإسلامية الوسطى... وكان الموقع الرئيسي لها منذ نهاية العصر الساساني إلى القرن الثاني عشر للميلاد هو موقع عرجا حيث وجدت آثار منشآت عمرانية يمكن أن تكون لها علاقة بالتعدين، كما عثر على آثار فخارية وخزفية يمكن تأريخها بهذه الفترة. ومما لفت الانتباه العثور على عرق من النحاس على عمق 90م تحت سطح الأرض مع قطع من الخشب والحبال، وقد درست هذه البقايا لتأريخها بطريقة التأريخ بالفحم المشع (14C) فأرجعت إلى القرن التاسع الميلادي. وقد أشار المسعودي (القرن الرابع للهجرة/ العاشر الميلادي) إلى مناجم النحاس في عُمان... ولكن الأهم من ذلك وهو وجود قواعد تنظيمية خاصة بالتعدين من مصادر عُمانية تعود إلى القرن العاشر للميلاد أيضا.. وكانت مناجم للتعدين تستثمر في وادي الجزي (بالقرب من صحار) من القرن الثاني عشر. ولكن أيا من هذه المراجع لا يقدم لنا أية معلومات تفصيلية، ومما لاشك فيه أنها تدور حول موضوع التعدين، وهي تتضمن مثـلاً عقوداً بين المالكين للموقع وبين المستثمرين، وهي عقود طويلة الأجل تمتد إلى مائة عـام مثلا... ولكن الوثائق نفسها تصمت عن أعطاء أية معلومات عن اليد العاملة أو التقنيات المتبعة
وبموجب البيانات النصوصية المتوفرة منذ مطلع الألف الثالث ق.م. وكذلك الدلالات الأثرية للمستوطنات البشرية المنتشرة في مناطق واسعة من سواحل وجزر الخليج، فأن النحاس الذي عرفه العراقيون منذ مطلع الألف الرابع ق.م وصلهم من مناجم النحاس في عُمان وعن طريق الرحلات البحرية في الخليج. وقد شجع على تطور العلاقات التجارية بين العراق و عُمان حيث أن طريق الرحلات البحرية عبر الخليج كان طريقا سالكا أمام وسائط النقل القديمة، ومما ساعد على تطوير العلاقات التجارية خلال الألفيتين الرابعة والثالثة ق.م. والمستندة أساسا على النحاس، توفر مواد أولية أخرى في عُمان أو تستجلبها رحلات التجارة في الخليج، وهي الأحجار بأنواعها المختلفة ومنها الأحجار الكريمة، وكذلك الأخشاب والنحاس
وكما سبق القول فقد اخذ تدجين الجمل واستخدامه الواسع من قبل سكان الجزيرة العربية للنقل والمواصلات، يقلل من أهمية النقل البحري في الخليج، وفتح آفاقاً وأسواقاً جديدةً أمام تجارة عرب جنوب الجزيرة العربية عامة ومنهم العُمانيون، مثلما أثر هذا الواقع الجديد في الأسواق والمتغيرات السياسية والبشرية والفكرية لعالم الشرق الأدنى القديم خلال الألفية التاسعة ق.م، وشيوع مواد تجارية جديدة، حيث أصبح الطلب على البخور والطيوب يأتي في مقدمة السلع التجارية الهامة
وعليه، فقد أخذت التجارة والسلع العُمانية تتوجه في جانب كبير منها صوب الغرب والشمال ولتتحد مع تجارة قوافل جنوب الجزيرة العربية الواسعة فيما يعرف بطريق البخور
ومما يعزز هذا الرأي انتشار كتابات المسند في مواقع عُمانية وخليجية كثيرة، كما أصبحت المواشي ومنها الخيول والجمال والطيوب والذهب من بين مواد التجارة العربية القديمة والتي سعى الأشوريون وغيرهم للحصول عليها.وقد زاد التجارة العربية أهمية مقدرتها على توفير سلع أجنبية للأسواق التجارية تتعدى السلع المحلية، مثال ذلك سلعة القرفة التي لعب العُمانيون دورا بارزا من دون شك في توفيرها للأسواق من مناشئها الهندية، وذلك بفضل قدراتهم المتطورة تاريخيا على ركوب البحر، وتهيؤ شروط ملاحية مشجعة للانتقال بين خليج عُمان وبين شواطئ الهند الغربية، حيث يمكن الوصول بعدها إلى مكامن القرفة وأنواع أخرى كثيرة من السلع والمنتجات الهامة
وعموما فان مراكز الحضارات والأحوال السياسية والعسكرية وكذلك سلع التجارة الرئيسية، وطرق المواصلات ووسائط النقل، كانت ولا تزال تلعب دورها في توجهات الطرق التجارية العالمية، وتخلق أسس العلاقات المختلفة بما فيها العلاقات الحضارية
ولكن الذي أفادت منه عُمان خاصة وجنوب الجزيرة العربية بشكل عام، أنها مع ضعف الطلب على النحاس وجدت البدائل في الطيوب والتوابل والمنسوجات
هذا ولم يكن نشاط الإنسان العُماني في العصور التاريخية القديمة قاصراً على التعدين والاشتغال بالتجارة والملاحة، وإنما كان له أيضا نشاطه في مجال الزراعة، ذلك أن الدول القوية في التاريخ القديم أو الحديث تجد مبررات قوتها دائما في اقتصاد متنوع مزدهر، تشكل الزراعة، وبخاصة في اقتصاديات العالم القديم ابرز أركانه. ورغم أن التفاصيل الكاملة لوضع الدولة القديمة في عُمان وأركانها ونشاطاتها غير معروف حتى الآن، ولكن صورة الزراعة المتطورة، إضافة لما عرضناه من أمر التجارة المزدهرة، تمثل وجهاً ناصع البياض لنشاطات الدولة القديمة في عُمان على مختلف مسمياتها
ويتأكد الحديث عن الزراعة القديمة المتطورة في عُمان في ضوء دليلين هما: الأول، ونستقيه من إشارات بعض النصوص المسمارية التي تحدثت عن استيراد مواد زراعية من مجان (عُمان) منها البصل، إضافة إلى القصب والأخشاب التي تعد من المنتجات الزراعية التي اشتهرت بها التجارة العُمانية الخارجية مع العراق. أما الدليل الثاني، فيتمثل في بقايا عشرات الأميال من قنوات الري القديمة المنتشرة في مناطق شتى من عُمان والتي تعرف محليا باسم الافلاج
والفلج لغة بمعنى النهر وقيل النهر الصغير وقيل الماء الجاري من العين أو هو الساقية، والفلجات سواقي الزرع والجمع أفلاج... والمبدأ العام لعمل هذا النظام المبدع في الري، هو تسريب المياه الجوفية عبر قنوات تشيد في باطن الأرض يختلف انحدارها عن مستوى انحدار الطبقة الصخرية الحاوية للمياه الجوفية، حتى وصول القناة إلى حدود سطح الأرض على مقربة من القرى الزراعية والمدن، فتتوزع المياه للأغراض الحياتية المختلفة. وعليه فنظام الافلاج يتطابق عمله مع ما وصفه اللغويون بالقناة وتعني أنبوب الماء المصنوع الذي يجري تحت الأرض ويسمى ايضاً كظامة ونفق واردب.. وتشيد الافلاج على أشكال مختلفة، فقد تكون القناة مخفية في باطن الأرض حتى نقطة وصولها للاستغلال البشري، وقد تظهر وتختفي ثانية وقد يقيم أصحاب الفلج مساقط ماء عند بعض نقاط القناة للاستفادة منها في تشغيل طواحين حجرية
وتكثر مشاريع الافلاج في عُمان على جانبي سلسلة جبال عُمان المعروفة باسم جبال الحجر، وبذلك فهي تنتشر في مناطق الداخلية والشرقية من عُمان وفي سهول الباطنة المطلة على خليج عُمان والبحر العربي، وسهول الظاهرة المطلة على صحراء الربع الخالي
ومثلما برع مهندسون عرب قدامى في أعمال الري عرفوا بالقناقن... فان قبائل عُمانية اشتهرت أكثر من غيرها في شق الافلاج وصيانتها في الوقت الحاضر. ورغم أن التقاليد التقنية في إنشاء هذه الافلاج وكذلك اعتمادها الوسيلة الوحيدة لري مناطق مهمة وواسعة في عُمان، تشير إلى قدم مشاريع الري هذه في عُمان
وربما تكشف أعمال التنقيبات المتواصلة في عُمان، عن دلائل أثرية تكشف عن الأبعاد التاريخية لهذا النظام المتطور للري
ويشير تقرير البعثة الإيطالية حول الافلاج أن الاكتشافات الجديدة في موقع سلوت الأثري بولاية بهلا تشير بأن اصل الافلاج هي عُمانية المنشأ وترجع إلى أواخر الألف الثاني قبل الميلاد حيث ظهر نظام الري في عُمان، وانتقل بعد ذلك بفترة زمنية كبيرة إلى إيران بعد سيطرتها على سواحل جنوب الجزيرة العربية. ويرجع المؤرخون العُمانيون وغيرهم منشأ الافلاج في عُمان إلى النبي سليمان بن داوود في القرن العاشر قبل الميلاد، وتسمية بعض الافلاج بالداؤودية مرجعه إلى ذلك الاعتقاد وهي تمثل 40% من الافلاج العُمانية
وللافلاج نظام دقيق في الهندسة الإنشائية ونظام الري وطرق الصيانة والتشغيل. وتوجد في عُمان ثلاثة أنواع رئيسية من الافلاج
1. افلاج داؤودية (عّدية) عبارة عن أنفاق تحت الأرض تصل في طولها إلى (12) كيلومتراً
2. افلاج (غيليه) وهي عبارة عن قنوات مكشوفة توجد في مجاري الأودية وقد يصل طولها إلى (2) كيلومتراً. 3. افلاج (عينية) منابعها في قمم وسفوح الجبال وتنساب مياهها في قنوات مكشوفة أو أنفاق أو على جسور، ويتم إعداد مجاريها لتصل إلى القرى والأراضي المزروعة
اختلفت الآراء في اصل تسمية عُمان فالبعض يرجعه إلى قبيلة عُمان القحطانية، والبعض يأخذه من معنى الاستقرار والإقامة، فيقول ابن الإعرابي: العمن أي المقيمون في مكان، يقال رجل عامن وعمون، ومنه اشتقت كلمة عُمان، ويستطرد فيقول: أعمن الرجل أي دام على المقام بعُمان
أما الزجاجي فيقول: أن عُمان سميت باسم عُمان بن إبراهيم الخليل عليه السلام، بينما يذكر ابن الكلبي: أنها سميت باسم عُمان بن سبأ بن يغثان بن إبراهيم خليل الرحمن لأنه هو الذي بنى مدينة عُمان. أما شيخ الربوة فيقول: أنها سميت بهذا الاسم نسبة إلى عُمان بن لـوط النبي عليه السلام، وقيل أن الازد سمت عُمان (عُمانا) لان منازلهم كانت على واد لهم بمأرب يقال له عُمان فشبهوها به
ومن أقدم المؤرخين الرومان الذين ذكروا عُمان بهذا الاسم يلينوس الذي عاش في القرن الأول للميلاد (23 – 79م) فقد ورد في كتاباته اسم مدينة تسمى عُمانه،
OMANAوكذلك ورد هذا الاسم عند بطليموس الذي عاش في القرن الثاني للميلاد، ويظن جروهمان أن عُمانه المذكورة عند هذين المؤرخين هي صحار التي كانت تعد المركز الاقتصادي الأكثر أهمية في المنطقة في العصر الكلاسيكي
وقد عرفت عُمان بأسماء أخرى، فقد أطلق عليها السومريون ودول بلاد مابين النهرين اسم (مجان)، ربما نسبة إلى صناعة السفن التي تشتهر بها عُمان، حيث ورد في النقوش المسمارية بأن مجان تعني هيكل السفينة، كما سماها الفرس باسم (مزون)
وورد اسم عُمان في المصادر العربية على أنها إقليم مستقل. فقد أشار الاصطخري وابن حوقل إلى ذلك في قولهما: و عُمان ناحية ذات أقاليم مستقلة بأهلها فسحة. أما ابن خلدون فقـد كان أكثر وضوحـاً في تعريفه لعُمان، فقد ذكرها في جملة الأقاليم العربية التي ظهرت كدول مستقلة في جزيرة العرب وهي اليمن والحجاز وحضرموت والشحر و عُمان، ووصف نظام حكمها، فقال بأنها (إقليم سلطاني منفرد)
ومهما كان الأمر، فأن اسم عُمان كما هو ملاحظ يعود إلى عصور تاريخية قديمة، وإذا رجحنا أن عُمان حملت هذا الاسم نسبة إلى واد في اليمن يسمى عُمان، أو إلى قبيلة يمنية تحمل نفس الاسم، فان ذلك يدل على قدم الهجرات العربية التي توالت من اليمن إلى عُمان، والى أن عُمان كانت تصطبغ بالصبغة العربية منذ أقدم العصور
والحديث عن تاريخ عُمان في العصور القديمة ذو شقين، يتوجب الشق الأول منه الاستفادة من المصادر المدونة، وبخاصة كتابات الإخباريين والجغرافيين منها، ولكن هذه المصادر لا تستطيع التوغل بالباحثين في أعماق التاريخ العُماني
أما الأحداث التاريخية ونشاطات العُمانيين خلال العصور الحجرية القديمة أو الحديثة، أو خلال العهود التاريخية منذ مطلع الألف الثالث ق.م وما بعدها، فقد كان حالها مثل حال كثير غيرها من مناطق الجزيرة العربية والخليج، مجهولاً تماماً. وكانت بعض المعلومات المتفرقة التي تتساقط من بين ثنايا الكتابات المسمارية تشكل بصيص الأمل الوحيد أمام الباحثين للتفتيش عن ماضي الأحداث لهذه المنطقة الهامة من مناطق التمدن البشري القديم
إن العقود الأخيرة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية دفعت بالدراسات التاريخية القديمة للخليج والجزيرة العربية، والمعتمدة في الأساس على المصادر المسمارية العراقية القديمة، لتتبوأ مكانة هامة على صعيد الدراسات التاريخية والأثرية، مثلما شجعت علماء الآثار والمنقبين لبدء أعمال تنقيبات أثرية واسعة في شتى مناطق الجزيرة العربية، وعلى الأخص مراكز الاستيطان القديم على الأطراف وفي الواحات ومناطق السواحل، وهي التي توفرت لها إشارات نصوصية عديدة تشير إلى انهماكها في نشاطات ملاحية وتجارية واسعة
وهكذا أعانت المصادر المسمارية على البدء في قيام مرحلة جديدة من دراسة التاريخ العربي القديم عموماً، والتي يحتل التاريخ العُماني فصلاً هاما منها. وتعد أعمال الاستكشافات والتنقيبات الأثرية الشق الثاني من الحديث عن تاريخ عُمان القديم، بخاصة وان النتائج التي أسفرت عنها الجهود الخيرة التي قامت بها حكومة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم أثبتت بصورة قاطعة عراقة وأهمية التاريخ العُماني القديم ودوره في بناء الحضارة الإنسانية ودعم مقوماتها بعناصر التواصل والدوام
وتجدر الإشارة في هذا الخصوص إلى العناية الفائقة التي تبذلها سلطنة عُمان، في مجال الدراسات الأثرية حيث تعتبر مجلة الدراسات العُمانية - The Journal of Oman Studies - التي تصدر عن وزارة التراث والثقافة في سلطنة عُمان خير دليل على ذلك، فقد صدر العدد الأول منها في عام 1395هـ - 1975م ولا تزال تواصل الصدور، وتعد بحوثها وتقارير البعثات الأثرية المختلفة العاملة في عُمان، من أهم المراجع وأوثقها بخصوص التاريخ والحضارة القديمين لهذا الركن الهام من الوطن العربي
وعُمان تحتل الأجزاء الجنوبية الشرقية من شبه الجزيرة العربية، فهي تطل على البحر العربي وخليج عُمان وتشرف على مضيق هرمز الذي يربط الخليج بالمحيط الهندي ويعد حلقة الوصل الرئيسية. ورغم أهمية عُمان في شؤون الملاحة والمواصلات البحرية، فإن علاقـاتها ببقية أقسام الجزيرة العربية تعززت خلال الفترات المبكرة للتاريخ العُماني من خلال طرق بـرية نشطة، وجدت تأكيداً لها في عدد من المخلفات الأثرية
وإذا كانت الإشارات النصوصية المسمارية تؤكد على أهمية مجان (عُمان) في تصدير النحاس إلى العراق، وهـو الأمر الذي توفـرت دراسات أثرية حقلية في عُمان لتأكيده في السنوات الأخيرة. فأن التاريخ والحضارة العُمانية القديمة يشكلان جزءاً من النشاط التاريخي والحضاري العام لمنطقة الخليج، والذي لعب الطريق القديم بمراكزه الحضارية دوراً بارزاً في صياغة مكنوناته. وتعد هذه النظرة المنهجية المدخل الصحيح لدراسة التاريخ العُماني القديم
كانت الملاحة العُمانية القديمة تتميز عن غيرها من مراكز الخليج بعظمة سفنها، وربما أيضاً لأهمية تجارتها من النحاس الذي كان يجد أسواقاً رائجة له في مدن بلاد وادي الرافدين. فالنصوص المسمارية تقرن مجان بسفن معينة تدعوها، سفينة مجان، ولكن الإشارة النصوصية التي تذكرها وهي في قصيدة سومرية تتعلق برحلة جلجامش إلى ارض الحياة، أريد من ورائها أن تكون سفينة مجان مثالاً لأعظم السفن وأشدها. ويتأكد هذا الفهم للسفن المجانية من مقدمة قانون أورنمو التي يتفاخر فيها بتمكنه من إعادة هذه السفن لترسو في رصيف مدينة (أور) والإكثار من ترددها وجعلها مشهورة. ويبدو ذلك منطقياً من نوع البضائع التي اقترن ذكرها في المصادر المسمارية بمجان وأبرزها النحاس والحجارة والأخشاب. وبذلك يمكننا القول بأن شهـرة البحرية العُمانية في القرون القليلة الماضية تستند إلى خبرة ملاحية طويلة تستمد مقوماتها من تاريخ عُمان القديم، مع ملاحظة المتغيرات في الاتجاهات والرحلات ومواد التجارة بين زمن وآخر
كما أن نصوصاً أخرى من زمن سرجون الاكدي جد نرام سين، تتحدث عن مزيد من السفن المجانية (العُمانية) التي وصلت إلى بلاد أكاد. حيث يتناسب ذلك مع وجود دولة قوية مزدهرة في عُمان تنشط على يديها الأعمال التجارية والملاحة البحرية الواسعة، وقد ذكر المؤرخون أنها دولة" قاد"
أما المنطلق الثالث لدراسة التاريـخ العُماني القديم فيتوجه صوب استكشاف الأهمية الاستراتيجية التي احتلتها عُمان على صعيد العلاقات العربيـة من جانب، وبينها وبين العالم الخارجي من جانب آخر
وعندما تعطلت الملاحة في البحر الأحمر نتيجة لانتشار الصخور المرجـانية على سواحله ولعدم توافر الرياح المواتية نشطت تجارة القوافل العربية التي نقلت البضائع من الموانئ اليمنية في الجزيرة العربية إلى أسواق الشام ومدن ساحل البحر المتوسط ومصر
ولكن تجارة القوافل العربية هذه لم تكن لتحقق هذه المكانة والأهمية في تاريخ الاقتصاد العربي القديم إلا بفضل تدجين الجمل سفينة الصحراء الذي أصبح منذ مطلع الألف التاسع ق.م. حيواناً عربياً مستأنساً على نطاق واسع يخدم عملية النقل والمواصلات بين أقسام بلاد العرب من جانب، وبينها وبين مركز الحضارات على إطرافها في العراق والشام ومصر من جانب آخر
وبسبب موقع بلاد عُمان الذي تفصله صحراء (الربع الخالي) عن بقيـة أقسام الجزيرة العربية، والى وقت تدجين الجمل في الألفية التاسعة قبل الميلاد، فإن معظم النشاطات التجارية والملاحية العُمانية كانت موجهة صوب مناطق الخليج وبلاد وادي الرافدين من جهة واليمن وشرق أفريقيا والقارة الهندية من جهة أخرى وهو ما تؤكده المصادر المسمارية ونتائج أعمال التنقيب الأثرية في المراكز الحضرية القديمة
وقد بدأت تتكشف مجاهل تاريخ عُمان القديم أمام البعثات العلمية للتنقيب عن الآثار، وترجع أقدم الآثار التي وجدت على الساحل العُماني الشرقي والغربي إلى الألف الخامس ق. م. وهناك دلائل واضحة على تشكل مجتمعات صغيرة في عصور مبكرة من التاريخ على ارض عُمان تعود إلى الألف السادس قبل الميلاد، كشف النقاب عنها في مـوقع القـرم في محافظة مسقط، حيث عثر على مقابر وبقايا أطعمة وأمتعة شخصية… فقد عاش معظم سكان ذلك الموقع على استخراج المواد الغذائية من الأسماك والمحار من الشواطئ القريبة بينما كان آخرون صيادين عاشوا على قنص الغزلان من الوديان ومن أعماق المناطق الداخلية… ويدل وجود آثار القبور على وجود مؤسسـة للحياة الدينية لها طقوس معترف بها، أما العثور على حلى للرجال وللنساء فيقدم دليلاً على بلوغ درجة ما من التقدم التقني
أدت الاكتشافات الأثرية في سلطنة عُمان إلى انتشار ما يعرف بمقابر خلايا النحل في كل من بات بالقرب من عبري في منطقة الظاهرة وموقع إبراء في المنطقة الشرقية من عُمان ومما يلفت النظر في بناء هذه القبور، التقنية المتبعة في تغطية السقف القببي الشكل بالحجر الكلسي، وتقسيم داخل القبر إلى حجرتين أو ثلاث… وفي هذا كله تعبير مادي عن معتقدات دينية انعكست في التقاليد الاجتماعية وفي الحياة اليومية للناس، ينبغي البحث عن مصادرها والعوامل المؤثرة فيها
فإذا أضفنا إلى الكشوف الأثرية في بلاد الخليج ما كشف عنه في تبة يحي في كرمان وباجور في بلوخستان، كان بالإمكان إعادة رسم طرق الاتصال والتبادل بين الحضارتين الكبيرتين اللتين قامتـا على ارض الرافدين والجزيرة العربية (سـومر واكاد)، وفي وادي السند… وقد كان لديلمون في شمال الخليج ولمجان جنوب الخليج دور كبير خلال أكثر من ألفي عام من التاريخ القديم في تأمين هذا الاتصال، ويلاحظ فريق من الباحثين الألمان أن تحرك دول الرافدين في الخليج للحصول على المواد الأولية يقابله تحرك مصري في الخليج المقابل (البحر الأحمر) للوصول إلى منتجات بلاد بونت (ساحل بحر العرب والساحل الإفريقي المقابل).. وفي هذا التحرك المتبادل بدأت تتشكل في الألف الأول ق.م. أسس حضارة جديدة في عُمان تقوم على تجارة البخور بما فيها اللبان والمر والطيوب ونقلها بين المحيط الهندي وحوض البحر المتوسط
وتكشف التقارير العلمية التي نشرت عام 1987م عن محصلة التنقيبات الأثرية التي أجريت في بعض مناطق عُمان (المنطقة الوسطى من الباطنة) خلال عقد من السنين، ما سبق ذكره من وجود خلفية تاريخية قديمة لتشكيل مجتمع له فعالية اقتصادية سياسية وكيان سياسي منظم للتعامل مع الدول والمجتمعات الأخرى
وتؤكد الدراسات العلمية أن عُمان تحتوي على كميات كبيرة من النحاس في شمال البلاد، كما دل على ذلك أيضاً تحليل الصخور المخضرة وظهور سيليكات المغنيزيوم المهدرجة فيها، وكان النحاس يستخرج بسهولة من الصخور ومن مناجم محفورة في العصور القديمة، كما أمكن استخراج بعض أنواع الكبريت. وتقع منطقة التعدين وراء المنطقة الزراعية بنحو خمسة وعشرين كيلومترا من الساحل، على سفح جبال الحجر الغربي. ودل العثور على آثار حجرية في المنطقة على استقرار مجتمعات صغيرة في مطلع الألف الثالث ق.م. في الظاهرة عملت في التعدين. وكانت المواد الأولية تستخرج من المناجم، ويصهر المعدن في مصاهر بسيطة، وبنيت مساكن بسيطة لتأمين استقرار العمال
وقد استمر استغلال هذه المناجم في عُمان إلى العصور الإسلامية الوسطى... وكان الموقع الرئيسي لها منذ نهاية العصر الساساني إلى القرن الثاني عشر للميلاد هو موقع عرجا حيث وجدت آثار منشآت عمرانية يمكن أن تكون لها علاقة بالتعدين، كما عثر على آثار فخارية وخزفية يمكن تأريخها بهذه الفترة. ومما لفت الانتباه العثور على عرق من النحاس على عمق 90م تحت سطح الأرض مع قطع من الخشب والحبال، وقد درست هذه البقايا لتأريخها بطريقة التأريخ بالفحم المشع (14C) فأرجعت إلى القرن التاسع الميلادي. وقد أشار المسعودي (القرن الرابع للهجرة/ العاشر الميلادي) إلى مناجم النحاس في عُمان... ولكن الأهم من ذلك وهو وجود قواعد تنظيمية خاصة بالتعدين من مصادر عُمانية تعود إلى القرن العاشر للميلاد أيضا.. وكانت مناجم للتعدين تستثمر في وادي الجزي (بالقرب من صحار) من القرن الثاني عشر. ولكن أيا من هذه المراجع لا يقدم لنا أية معلومات تفصيلية، ومما لاشك فيه أنها تدور حول موضوع التعدين، وهي تتضمن مثـلاً عقوداً بين المالكين للموقع وبين المستثمرين، وهي عقود طويلة الأجل تمتد إلى مائة عـام مثلا... ولكن الوثائق نفسها تصمت عن أعطاء أية معلومات عن اليد العاملة أو التقنيات المتبعة
وبموجب البيانات النصوصية المتوفرة منذ مطلع الألف الثالث ق.م. وكذلك الدلالات الأثرية للمستوطنات البشرية المنتشرة في مناطق واسعة من سواحل وجزر الخليج، فأن النحاس الذي عرفه العراقيون منذ مطلع الألف الرابع ق.م وصلهم من مناجم النحاس في عُمان وعن طريق الرحلات البحرية في الخليج. وقد شجع على تطور العلاقات التجارية بين العراق و عُمان حيث أن طريق الرحلات البحرية عبر الخليج كان طريقا سالكا أمام وسائط النقل القديمة، ومما ساعد على تطوير العلاقات التجارية خلال الألفيتين الرابعة والثالثة ق.م. والمستندة أساسا على النحاس، توفر مواد أولية أخرى في عُمان أو تستجلبها رحلات التجارة في الخليج، وهي الأحجار بأنواعها المختلفة ومنها الأحجار الكريمة، وكذلك الأخشاب والنحاس
وكما سبق القول فقد اخذ تدجين الجمل واستخدامه الواسع من قبل سكان الجزيرة العربية للنقل والمواصلات، يقلل من أهمية النقل البحري في الخليج، وفتح آفاقاً وأسواقاً جديدةً أمام تجارة عرب جنوب الجزيرة العربية عامة ومنهم العُمانيون، مثلما أثر هذا الواقع الجديد في الأسواق والمتغيرات السياسية والبشرية والفكرية لعالم الشرق الأدنى القديم خلال الألفية التاسعة ق.م، وشيوع مواد تجارية جديدة، حيث أصبح الطلب على البخور والطيوب يأتي في مقدمة السلع التجارية الهامة
وعليه، فقد أخذت التجارة والسلع العُمانية تتوجه في جانب كبير منها صوب الغرب والشمال ولتتحد مع تجارة قوافل جنوب الجزيرة العربية الواسعة فيما يعرف بطريق البخور
ومما يعزز هذا الرأي انتشار كتابات المسند في مواقع عُمانية وخليجية كثيرة، كما أصبحت المواشي ومنها الخيول والجمال والطيوب والذهب من بين مواد التجارة العربية القديمة والتي سعى الأشوريون وغيرهم للحصول عليها.وقد زاد التجارة العربية أهمية مقدرتها على توفير سلع أجنبية للأسواق التجارية تتعدى السلع المحلية، مثال ذلك سلعة القرفة التي لعب العُمانيون دورا بارزا من دون شك في توفيرها للأسواق من مناشئها الهندية، وذلك بفضل قدراتهم المتطورة تاريخيا على ركوب البحر، وتهيؤ شروط ملاحية مشجعة للانتقال بين خليج عُمان وبين شواطئ الهند الغربية، حيث يمكن الوصول بعدها إلى مكامن القرفة وأنواع أخرى كثيرة من السلع والمنتجات الهامة
وعموما فان مراكز الحضارات والأحوال السياسية والعسكرية وكذلك سلع التجارة الرئيسية، وطرق المواصلات ووسائط النقل، كانت ولا تزال تلعب دورها في توجهات الطرق التجارية العالمية، وتخلق أسس العلاقات المختلفة بما فيها العلاقات الحضارية
ولكن الذي أفادت منه عُمان خاصة وجنوب الجزيرة العربية بشكل عام، أنها مع ضعف الطلب على النحاس وجدت البدائل في الطيوب والتوابل والمنسوجات
هذا ولم يكن نشاط الإنسان العُماني في العصور التاريخية القديمة قاصراً على التعدين والاشتغال بالتجارة والملاحة، وإنما كان له أيضا نشاطه في مجال الزراعة، ذلك أن الدول القوية في التاريخ القديم أو الحديث تجد مبررات قوتها دائما في اقتصاد متنوع مزدهر، تشكل الزراعة، وبخاصة في اقتصاديات العالم القديم ابرز أركانه. ورغم أن التفاصيل الكاملة لوضع الدولة القديمة في عُمان وأركانها ونشاطاتها غير معروف حتى الآن، ولكن صورة الزراعة المتطورة، إضافة لما عرضناه من أمر التجارة المزدهرة، تمثل وجهاً ناصع البياض لنشاطات الدولة القديمة في عُمان على مختلف مسمياتها
ويتأكد الحديث عن الزراعة القديمة المتطورة في عُمان في ضوء دليلين هما: الأول، ونستقيه من إشارات بعض النصوص المسمارية التي تحدثت عن استيراد مواد زراعية من مجان (عُمان) منها البصل، إضافة إلى القصب والأخشاب التي تعد من المنتجات الزراعية التي اشتهرت بها التجارة العُمانية الخارجية مع العراق. أما الدليل الثاني، فيتمثل في بقايا عشرات الأميال من قنوات الري القديمة المنتشرة في مناطق شتى من عُمان والتي تعرف محليا باسم الافلاج
والفلج لغة بمعنى النهر وقيل النهر الصغير وقيل الماء الجاري من العين أو هو الساقية، والفلجات سواقي الزرع والجمع أفلاج... والمبدأ العام لعمل هذا النظام المبدع في الري، هو تسريب المياه الجوفية عبر قنوات تشيد في باطن الأرض يختلف انحدارها عن مستوى انحدار الطبقة الصخرية الحاوية للمياه الجوفية، حتى وصول القناة إلى حدود سطح الأرض على مقربة من القرى الزراعية والمدن، فتتوزع المياه للأغراض الحياتية المختلفة. وعليه فنظام الافلاج يتطابق عمله مع ما وصفه اللغويون بالقناة وتعني أنبوب الماء المصنوع الذي يجري تحت الأرض ويسمى ايضاً كظامة ونفق واردب.. وتشيد الافلاج على أشكال مختلفة، فقد تكون القناة مخفية في باطن الأرض حتى نقطة وصولها للاستغلال البشري، وقد تظهر وتختفي ثانية وقد يقيم أصحاب الفلج مساقط ماء عند بعض نقاط القناة للاستفادة منها في تشغيل طواحين حجرية
وتكثر مشاريع الافلاج في عُمان على جانبي سلسلة جبال عُمان المعروفة باسم جبال الحجر، وبذلك فهي تنتشر في مناطق الداخلية والشرقية من عُمان وفي سهول الباطنة المطلة على خليج عُمان والبحر العربي، وسهول الظاهرة المطلة على صحراء الربع الخالي
ومثلما برع مهندسون عرب قدامى في أعمال الري عرفوا بالقناقن... فان قبائل عُمانية اشتهرت أكثر من غيرها في شق الافلاج وصيانتها في الوقت الحاضر. ورغم أن التقاليد التقنية في إنشاء هذه الافلاج وكذلك اعتمادها الوسيلة الوحيدة لري مناطق مهمة وواسعة في عُمان، تشير إلى قدم مشاريع الري هذه في عُمان
وربما تكشف أعمال التنقيبات المتواصلة في عُمان، عن دلائل أثرية تكشف عن الأبعاد التاريخية لهذا النظام المتطور للري
ويشير تقرير البعثة الإيطالية حول الافلاج أن الاكتشافات الجديدة في موقع سلوت الأثري بولاية بهلا تشير بأن اصل الافلاج هي عُمانية المنشأ وترجع إلى أواخر الألف الثاني قبل الميلاد حيث ظهر نظام الري في عُمان، وانتقل بعد ذلك بفترة زمنية كبيرة إلى إيران بعد سيطرتها على سواحل جنوب الجزيرة العربية. ويرجع المؤرخون العُمانيون وغيرهم منشأ الافلاج في عُمان إلى النبي سليمان بن داوود في القرن العاشر قبل الميلاد، وتسمية بعض الافلاج بالداؤودية مرجعه إلى ذلك الاعتقاد وهي تمثل 40% من الافلاج العُمانية
وللافلاج نظام دقيق في الهندسة الإنشائية ونظام الري وطرق الصيانة والتشغيل. وتوجد في عُمان ثلاثة أنواع رئيسية من الافلاج
1. افلاج داؤودية (عّدية) عبارة عن أنفاق تحت الأرض تصل في طولها إلى (12) كيلومتراً
2. افلاج (غيليه) وهي عبارة عن قنوات مكشوفة توجد في مجاري الأودية وقد يصل طولها إلى (2) كيلومتراً. 3. افلاج (عينية) منابعها في قمم وسفوح الجبال وتنساب مياهها في قنوات مكشوفة أو أنفاق أو على جسور، ويتم إعداد مجاريها لتصل إلى القرى والأراضي المزروعة