دولة اليعاربة
قامت دولة اليعاربة في عُمان عام ( 1034 هـ / 1624 م ) نتيجة لظروف عديدة، منها أن البلاد كانت تعاني الكثير من الفوضى السياسية عند نهاية عهد النباهنة، تلك الدولة التي عمرت خمسة قرون كانت الثلاثة القرون الأولى تمثل فترة قوتها، ومع اقتراب القرن الخامس عشر بدأت عوامل الضغط تعمل في كيانها كنتاج طبيعي لانقسام الدولة إلى ممالك وكيانات ضعيفة عجلت بنهايتها
وتشير المصادر العُمانية إلى أن تاريخ النباهنة لم يكن كله ضعيفاً وإنما كانت هنالك فترات قوة، حيث حكم عُمان بعض الحكام العظام، لعل أشهرهم فلاح بن محسن
وبينما كان البرتغاليون يجهزون على كل القوي الإقليمية كانت عُمان تشهد مولد عهد جديد وزعامة جديدة
فقد ظهر ناصر بن مرشد كأول أمام لدولة اليعاربة، وقد استطاع هذا الإمام أن يستوعب كل أبعاد القضية، وان يدرك المتغيرات الجارية من حوله سواء على المستوى العُماني أو على مستوى المنطقة بشكل عام، وقدر كل أبعادها حيث اعتقد أن مواجهة البرتغال لا يمكن أن تكون حاسمة إلا إذا استند إلى جبهة وطنية متراصة ومتماسكة، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا إذا خاض حروباً ضارية في سبيل توحيد كل القبائل العربية
وبما أن منطقة الرستاق هي التي شهدت بعثة إمامة ناصر بن مرشد فقد كان عليه أن يبدأ بها، ولهذا مضى ومعه جمع من أنصاره نحو قلعة الرستاق وكان المالك للرستاق ابن عمه مالك بن أبي العرب اليعربي، وبعد حصار لم يدم طويلاً فتحها الإمام
ونظراً لثقل المهمة التي كان يقوم بها الإمام ناصر بن مرشد واستعداداً لحروب قد تطول أكثر مما كان يتوقع، لذا فقد كان يقيم في المناطق التي كان يدخلها حصناً أو قلعة بعد أن يترك أحدا من أتباعه لكي يواصل مهمته في ترسيخ مبادئه ومواصلة دعوته التي أخذت تنساب في كل أرجاء عُمان، وقد حققت هذه السياسة تعاظم نفوذ الإمام إضافة إلى عدالته التي كانت مضرب المثل مما دفع المترددين إلى القدوم إليه طالبين بسط سلطته العادلة
ومما يؤكد صعوبة المهمة التي مضى الإمام في سبيل تحقيقها كثرة الممالك التي أقيمت على مقومات قبلية بحيث يصعب التمييز فيها بين القبيلة والحكومة، وذلك أن الحكم كان بيد شيخ القبيلة الذي كان يطلق عليه تجاوزا ملكاً أو أميراً، أما فكرة الدولة القومية الواحدة والإدارة المركزية فهي من المفاهيم التي لم تتعود عليها القبائل في تلك الفترة
لعل الإمام ناصر كان يعول أهمية كبيرة على نزوى ولذا فبمجرد أن فتحها فضل أن يتريث لبعض الوقت ويبدو انه كان يتوقع توافد القبائل عليه تجنباً لإراقة الدماء وقد تحقق ما توقعه الإمام
ومن الظواهر اللافتة للنظر في سياسة الإمام انه كلما حقق قدراً لا باس به من الوحدة راح يتريث ترقباً لرد فعل قد يحول دون الحرب، ولعلها فرصة لإعادة ترتيب جنده ومحاولته العودة لتفقد المناطق التي دخلت في حوزته، وهي سياسة حكيمة تتعدد فوائدها على كل المستويات
وهكذا استطاع الإمام ناصر بن مرشد خلال سنوات حكمه والتي امتدت حتى(1059هـ/1649م)، أن يحقق لعُمان تماسكها. وكانت محاولاته نحو الوحدة باعثة على تحقيق الأمل الكبير الذي افتقرت إليه البلاد منذ زمن طويل، وينفرد الإمام ناصر بن مرشد بين أئمة اليعاربة بتصديه لهذا الكم الهائل من المشكلات حيث حارب في جبهتين (الساحل والداخل) وعند وفاته في (ربيع الثاني 1059هـ /23 ابريل 1649م) كانت القبائل العُمانية تحت لواء واحد، وعموماً فان فترة الإمام ناصر بن مرشد تعتبر من أغنى وأخصب الفترات في تاريخ اليعاربة، ويعد دوره في سبيل الوحدة الوطنية أساساً لكل الانتصارات اللاحقة ضد البرتغاليين
وإذا كانت عُمان منذ (1034هـ/1624م) وحتى وفاة الإمام ناصر بن مرشد (1059هـ/ 1649م) قد واجهت حروباً أهلية طاحنة إلا أنها استطاعت أن تخرج منها أكثر تماسكا وقوة وبدأت مرحلة جديدة من الوحدة في ظل حكومة مركزية وانتهى العهد الذي كانت فيه مقسمة إلى دويلات صغيرة تحت رئاسة ملوك ضعاف ارتضوا أن يحكموا دويلات هزيلة، بدلا من أن تقوى بلادهم وتتحد
وإذا كان الإمام ناصر بن مرشد قد أنجز تحقيق الوحدة الوطنية، إلا أن الوجود البرتغالي على السواحل العُمانية كان في حاجة إلى إمكانيات جديدة تفوق الإمكانيات التقليدية التي استخدمها اليعاربة في سبيل القضاء على الحروب الأهلية والانصياع لسلطة الدولة الموحدة، لقد وقعت كل المعارك التي خاضها الإمام ناصر بن مرشد من أجل الوحدة على اليابسة، أما البرتغاليون فقد كانوا أهل بحار، وطريقتهم في الحرب اعتمدت على السفن التي شهدت طفرة كبيرة منذ الكشوف الجغرافية، ولذا فان سياستهم الاستعمارية اعتمدت على احتلالهم لكثير من المدن والقلاع والحصون التي تقع في طريق البحار والمحيطات دون اللجوء إلى التعمق في اليابسة والذي لا يتناسب وإمكاناتهم البشرية
أدرك اليعاربة مقدرة عدوهم القادم من أقصى الطرف الأوربي كدولة بحرية خاضت معارك طاحنة في سبيل الحفاظ على مكانتها، ولذا فقد كانت العناية بالأسطول وتنمية الموارد الاقتصادية من الركائز الأساسية التي اعتمد عليها اليعاربة، ولذلك فقد طوروا أسطولهم التجاري والعسكري مستفيدين من خبرة الدول الأكثر تقدماً في هذا المجال وخصوصاً شركة الهند الشرقية البريطانية، حيث أقاموا معها علاقات طيبة مستفيدين من تنافسها مع السياسة البرتغالية في تلك الفترة قبل أن تنشأ سياسة الوفاق الجديدة
وبمجرد أن انشأ الإمام ناصر بن مرشد اسطوله وانتهى من القضاء على جميع القوى المحلية المناوئة ألقى بكل ثقله في محاربة البرتغاليين حيث انتزع منهم صور وقريات، على يد ابن عمه سلطان ابن سيف اليعربي
ويبدو أن انتزاع صور وقريات لم تكن مهمة سهلة، فقد كان التباين واضحاً بين حجم وكفاءة القوتين المتنافستين، إضافة إلى أن الوحدة الوطنية لم تكن قد تحققت بما يتناسب وأعباء المواجهة التي كانت تقضي بقدر كبير من الانسجام والتفاهم خصوصاً وان البرتغاليين كانوا قد استردوا أنفاسهم منذ أن طردوا من هرمز 1622م بسبب انشغال القبائل بالحروب الأهلية وقبل كل ذلك قد استجدت على مسرح الأحداث سياسة وفاق جديدة بين البرتغال وشركة الهند الشرقية بدءاً من عام (1044هـ/1634م)، تحولت إلى صداقة متينة وتعاون بين الطرفين وخصوصاً بعد أن استرد البرتغاليون استقلالهم من أسبانيا عام (1050هـ/1640م)
ومنذ عام (1050هـ/1640م ) بدأ ناصر بن مرشد يجني ثمار الوحدة الوطنية فبمجرد أن علمت القبائل بحصار صحار أخذت تستنفر همم شبابها الذين شاركوا في بناء القلعة، وخصوصاً من مناطق لوى وبات وكافة المناطق المتاخمة لصحار، وبينما ضرب العُمانيون حصاراً منيعاً حول صحار، كانت سرية أخرى قد وصلت إلى مسقط بأمر الإمام، وعلى الرغم من أن تلك السرية لم تحقق نتائج حاسمة، إلا أنها أربكت القوات البرتغالية، سواء في صحار أو مسقط مما مهد لسلسلة من الهجمات العُمانية الخطيرة ضد كافة المعاقل البرتغالية
ففي عام(1053هـ/1643م) استولى الإمام ناصر بن مرشد على مدينة صحار وبنى بها حصناً مقابلاً للحصن الذي يسيطر عليه البرتغاليون، كما نجح العُمانيون في الحصول على عدد من السفن المتقدمة، وكذا الذخيرة والبارود من الإنجليز مما ضاعف من حجم العمليات العسكرية ضد القواعد البرتغالية، وعموماً فلم يصل حجم المساعدات البريطانية لعُمان بما يتناسب وامكانات البرتغال مثل ما حدث في اتفاقية ميناب عام( 1032هـ/1622م)، حيث حاربت بريطانيا بجانب الفرس لتحرير هرمز أما اليعاربة فقد حاربوا في ظروف مختلفة حيث لم يستعينوا بقوة أجنبية إضافة إلى أن البرتغال أثناء طردها من هرمز كانت في ظل التبعية الأسبانية في حين أن العُمانيين قد تضاعف جهودهم بشكل ملحوظ بعد أن استردت البرتغال استقلالها
وعند وفاة ناصر بن مرشد لم يبق تحت السيطرة البرتغالية إلا مسقط ومطرح وحصن لهم في صحار، وقد حاول الإمام ناصر أن يسترد هاتين المدينتين وبعث بمسعود بن رمضان على رأس جيش بهدف تحريرهما، وتمكن مسعود بن رمضان من الوصول إلى مطرح وضرب عليها حصاراً في وقت تفشى فيه مرض الطاعون وأصيب البرتغاليون بهلع شديد
ولم يؤد هذا الحصار إلى تحرير مسقط ومطرح وإنما نجم عنه إبرام هدنة جاءت معظم بنودها في صالح العُمانيين.
وقد تضاعفت طموحات العُمانيين وأدركوا أنهم قاب قوسين أو أدنى من تحرير بلادهم من احتلال دام أكثر من مائة وأربعين عاماً، وبوفاة الإمام ناصر بن مرشد كان العُمانيون قد وضعوا أقدامهم عند نهاية الطريق بعد رحلة طويلة من الجهاد والتضحيات وامتد جهادهم إلى جلفار (رأس الخيمة) التي كان البرتغاليون يحتلون إحدى قلاعها بينما الفرس بقيادة ناصر الدين الفارسي يحتلون القلعة الثانية
بويع الإمام سلطان بن سيف (1059هـ -1649م) بعد وفاة الإمام ناصر بن مرشد ومن البداية أخذ الإمام الجديد يعد العدة للقضاء على البرتغاليين وأدرك أهمية الوقت كعامل هام في الإجهاز عليهم وخصوصاً بعد أن نما إلى علمه إن عدد جنودهم قد نقص نقصاً كبيراً بسبب حملات برتغالية كانت قد أرسلت إلى الهند اعتقاداً بأن موت الإمام ناصر بن مرشد يعد سبباً كافياً لإرجاء أي نوايا عدوانية نحو مسقط ومطرح، إلا أن سلطان بن سيف لم يمكث إلا أياماً قليلة وأسرع متخذاً من طوى الرولة قاعدة للهجوم الشامل عليهم، بينما تحصن البرتغاليون بقلاع وأسوار عالية، حيث رابط جنودهم بعد أن ثبتوا مدافعهم الثقيلة في كل اتجاه، وزيادة في الحيطة فقد حفروا خندقاً عميقاً حول الأسوار، كما بنوا على رؤوس الجبال المحيطة بمسقط ومطرح مجموعة أبراج ثبتوا في داخلها جنوداً أشداء أخذوا يمطرون القوات العُمانية بوابل من نيران مدافعهم
وكانت الحرب سجالاً بين الفريقين، فلم تكن للبرتغاليين قدرة على مواجهة العُمانيين ولم يكن للعُمانيين قدرة دخول مسقط ومطرح، وأعتمد الجيشان على القنص كلما أتيحت الفرصة لذلك. وهكذا طالت الحرب حتى كاد سلطان بن سيف أن يتراجع عن حصاره، وخصوصاً بعد أن نما الى علمه أن بعض القبائل بدأت تفكر في التراجع عن مساندته
ولكن حدث شيء لم يكن في الحسبان، إذ أن الإمام سلطان بن سيف قد تلقى معلومات على غاية من الأهمية من العرب القاطنين حول مسقط، مكنته من دخول المدينة ولا يستبعد أن تكون هذه المعلومات كانت تعبر عن حقيقة الأوضاع داخل المدينة خصوصاً عند (نهاية ذي الحجة 1059هـ/ ديسمبر1649م) وهو موعد رأس السنة الميلادية، حيث لم تكن هناك ثمة مراقبة دقيقة مما سهل على العرب مهمة التسلل إلى داخل مسقط، وأطلعوا على أحوال البرتغاليين ونقلوا إلى الإمام ما رأوه، ولم تلبث قوات الإمام أن حاصرت البرتغاليين في قلعة الجلالي، وبعد أن نفذت مؤونتهم اضطروا إلى التسليم وتركوا القلعة، وهذا ما حدث في مطرح أيضاً ولم يبق للبرتغاليين غير سفينتين كانت تحاصران مسقط إلا أن العُمانيين تمكنوا من أسرهما، وعندما وصلت هذه الأخبار إلى السلطات البرتغالية في الهند أسرعت بإرسال أسطول برتغالي كبير ولكنه وصل متأخراً، فقد كانت القلاع وكل الحصون البرتغالية قد تهاوت وسقطت في يد العُمانيين، وأصيب البرتغاليون بخسائر جسيمة، حيث قتل معظم جنودهم، وكل المحاولات التي قاموا بها في الهند لإمداد مسقط باءت بالفشل وبنهاية (1063هـ/1652م) لم يبق البرتغاليون في الخليج، إلا وكالتهم في كنج على الساحل الشرقي من الخليج
ومع ذلك فلم يفقد البرتغاليين الأمل في استعادة ساحل عُمان، حيث راحوا يدعمون مركزهم في كنج بل واخذوا يتفاوضون مع الفرس على السماح لهم بإنشاء وكالة تجارية في جزيرة هانجام، إلا أن الشروط الفارسية كان مبالغاً فيها، ولذا فقد رفض البرتغاليون العرض الفارسي، ويؤكد لوريمر أن سبب رفض البرتغاليين للعرض الفارسي هو تطلعهم إلى الساحل العربي، حيث كانت تبذل محاولات في هذا الصدد
لم يكتف العُمانيون بطرد البرتغاليين من سواحل عُمان بل شنوا عليهم حرباً تمثلت في سلسلة من الغارات ضدهم في المحيط الهندي براً وبحراً، وتعرضت المواقع البرتغالية في الهند إلى تلك الهجمات:- بومباي في(1072هـ/1661م) وديو في(رجب1079هـ/نوفمبر1668م) وفي شوال( 1086هـ/الموافق يناير1676م)، وكــذلك في (سنــة1081هـ/المـوافق1670م)، وبــاسين Bassein فــي (1085هـ/الموافق1674م) وامتدت المعارك لتشمل غرب المحيط الهندي حيث خاض الطرفان صراعاً طويلاً للسيطرة على شرقي أفريقيا، فقد اتصل سكان زنجبار الذين ربطتهم عوامل دينية وقومية مع العُمانيين بالإمام سلطان بن سيف من اجل تحريرهم من الاستعباد البرتغالي وبالرغم من الانتصارات التي حققها الإمام سلطان بن سيف في مياه زنجبار، الا أن الجلاء البرتغالي لم يتم إلا في عهد الإمام سيف بن سلطان الذي وضع حجر الأساس لبحرية عُمان الشهيرة التي سيطرت على جميع الساحل الإفريقي الشرقي من (ممباسة) إلى (كلوه) إذ سيطر العُمانيون على ممباسة (1110هـ/1698م) وسيطروا على بيما وزنجبار وبته Patta وكلوه، وكانت (موزمبيق) هي الوحيدة التي قاومت الأسطول العربي العُماني وبقيت بأيدي البرتغاليين إلى القرن العشرين، وقد حاول البرتغاليين استعادة مراكزهم البحرية الضائعة وقاموا بهجوم موحد على زنجبار ومسقط في آن واحد عام (1142هـ/1729م) ولكنهم أصيبوا بهزيمة منكرة، وبذلك انهارت آمال البرتغال في استعادة سيادتها على الخليج والمحيط الهندي، وامتد نفوذ عُمان من جنوب الجزيرة العربية وسواحل شرقي أفريقيا في الغرب إلى سواحل وادي السند في الشرق
وفي هذه الفترة أصبحت مسقط تتمتع بـ(مركز التوزيع التجاري الرئيسي) لمنطقة الخليج، فأصبحت واحدة من المواني الرئيسية في المحيط الهندي وسواحل الخليج وإيران والعراق والجزيرة العربية، وفي حدوده الغربية امتد هذا النفوذ إلى البحيرات الأفريقية المركزية، وفي الشرق لامس دلتا الكنج
وهكذا ظهرت قوة عُمان بعد القضاء على الهيمنة البرتغالية بشكل بات يخشاه الجميع، فقد أصبحت السفن العُمانية هي التي تبحث عن سفن الأعداء في مياه الخليج والمحيط الهندي، واضطرت السفن الهولندية والإنجليزية إلى تعزيز دفاعاتها تخوفاً من عرب عُمان، وقد عبر المقيم البريطاني في بندر عباس عن مخاوفه من تنامي قوة عُمان بقوله سنة (1106هـ/1694م): "إنهم سيثبتون أنهم كارثة كبرى في الهند كالجزائريين في أوروبا"
وقد أشارت السلطات الصفوية أيضاً إلى تفوق العُمانيين في هذه الفترة من خلال مذكرة رفعتها إلى الحكومة الفرنسية جاء فيها: (أن تمتعهم بموقع جغرافي مهم يتيح لهم الفرصة للسيطرة على الخليج وهذا يفسر قوة العُمانيين الذين تمكنوا بما يناهز الثلاثين قارباً من الاستيلاء على الغنائم)
ذلك أن الانتصارات التي حققها اليعاربة أثارت فارس التي كانت تتطلع إلى وراثة النفوذ البرتغالي، ولذا فقد تعددت المواجهات العُمانية الفارسية والتي جاءت في صالح اليعاربة، بدرجة أن التجارة الفارسية أصيبت بضرر بالغ مما دفع بالفرس إلى الاستعانة بالقوى الأوروبية بهدف القضاء على منافسة عُمان لها في هذا الميدان واتصلوا بالإنجليز لتحقيق هذا الهدف
وإذا كان الإنجليز لم يتحمسوا للعرض الفارسي خوفاً على مصالحهم الاقتصادية من الأسطول العُماني، فقد توجهت فارس إلى فرنسا على عهد لويس الرابع عشر وتمخضت الاتصالات عن توقيع معاهدة بينهما في عام (1119هـ/1707م) وكان من بين النصوص السرية التي احتوتها تلك المعاهدة أن يقوم الفرنسيون بإرسال أسطول لمساعدة فارس في غزو مسقط، إلا أن فرنسا ترددت قبل الإقدام على تلك الخطوة بنفس السبب الذي منع الإنجليز من تضامنهم مع فارس، على الرغم من الدبلوماسية النشطة التي مارسها الفرس في محاولة للضغط على لويس الرابع عشر.. وعموما فلم تسفر الاتصالات عن قيام تحالف فارسي فرنسي على الرغم من إبرام اتفاقية جديدة في عام (1127هـ/1715م)، ولعل ما حال دون أقدام فرنسا على تنفيذ بنود المعاهدة الجديدة تلك الفوضى التي اجتاحت فارس وما ترتب عليها من غزو أفغاني لها في عام (1135هـ/1722م)، كانت البرتغال قد أدركت في تلك الفترة أن زمن الضعف العربي قد ذهب وان مواجهة اليعاربة في كل مراحل الصراع قد باءت بالفشل وان استمرار الوضع يعني ضياع كل الممتلكات البرتغالية على سواحل الهند وشرق أفريقيا ولذا فقد راحوا ينسقون مع الفرس في محاولة لقيام تحالف عسكري يكون قادرا على ضرب اليعاربة
وقد أدرك سلطان بن سيف خطورة هذا التحالف الجديد، ولذا فقد عجل بضرب البرتغاليين وتصفية نفوذهم، وقسم أسطوله إلى قسمين أحدهما توجه إلى شرق أفريقيا حيث نجح في انتزاع ممباسا (1110هـ/1698م) تمهيداً لانتزاع الجزيرة الخضراء وكلوه. أما القسم الآخر من الأسطول فقد توجه إلى الهند، حيث نجح في تدمير الوكالة البرتغالية في مانجالور على الساحل الهندي
وهكذا استطاع اليعاربة كسر شوكة البرتغاليين وإنهاء سيادتهم الاحتكارية والقضاء على مراكزهم الاستراتيجية سواء على الشاطئ الأفريقي أو على سواحل الهند، ويقرر المؤرخ الإنجليزي كوبلاندCoupland إن البحرية العُمانية مع مطلع القرن السابع عشر وصلت إلى درجة من القوة يحسب حسابها من مثل الأساطيل الإنجليزية والهولندية . وبكل المقاييس فقد نجح العُمانيون وحتى نهاية عهد سلطان بن سيف الثاني عام (1130هـ/1718م) في إيجاد قدر كبير من التوازن الدولي انعكست نتائجه على كل المستويات، وترك انطباعاً هائلاً لدي الأوربيين عن هيبة الدولة، حيث عملت العديد من القوى الأوربية على كسب ودها، ولعل الازدهار الاقتصادي الذي وصلت إليه دولة اليعاربة ومكانة أسطولها البحري كان نتاجاً طبيعياً لقوة الدولة وحجم ثقلها البحري في كافة البحار الشرقية، في ظل جو مناسب من الألفة لدى عناصر السكان في عُمان، وبات الناس في أمن على حياتهم وارزاقهم
وإذا كان اليعاربة قد نجحوا كل النجاح في تحقيق هذا الازدهار الذي يترتب على انهيار النفوذ البرتغالي وكسر احتكاره لتجارة المنطقة، فأن من المفيد في هذا المجال أن نعرض للأسباب التي أدت إلى انهيار هذا النفوذ ومكن اليعاربة من هذا النجاح، والحقيقة فإن الأسباب التي عجلت بانهيار النفوذ البرتغالي في عُمان والخليج عديدة منها
أولاً
طبيعة الاستعمار البرتغالي للمنطقة التي كانت ترتكز على سلسلة من القواعد العسكرية الواقعة على الطريق البحري بين الهند والبرتغال، فلم يتوغل البرتغاليون في عمق البلاد التي استعمروها، وما كانوا يستطيعون ذلك لقلة عدد سكان البرتغال, ولاتساع إمبراطوريتهم وكان الإبقاء على تلك القواعد في أيديهم مرهون بقوة البحرية البرتغالية فلما ضعفت ضاع كل شيء
ثانياً
كانت حركة المد البرتغالي تمثل الموجة الاستعمارية الاولى المتعطشة للغزو ونهب ثروات الشعوب وكان الميدان خالياً أمامها، فلما دخلته قوى أوروبية أخرى أكثر منها قوة مثل هولندا وبريطانيا وفرنسا، ولا تقل عنها تطلعاً في أن يكون لها نصيب في الغنيمة يتفق مع ثقلها السياسي والعسكري، لم تقو البرتغال على الصمود أمام هذه القوى الطامعة
ثالثا
حسن اختيار العُمانيين للظروف الدولية المناسبة لتوجيه ضرباتهم القاضية ضد الوجود البرتغالي في عُمان فالتنافس الذي ساد العلاقات بين البرتغاليين من جهة والفرس والهولنديين والإنجليز من جهة أخرى، ورغبة الفريق الثالث في القضاء على النفوذ البرتغالي وإبعادهم عن الخليج ساعد العُمانيين إلى الحد الكبير
رابعا
اتبع البرتغاليون سياسة الشدة والبطش في معاملاتهم للشعوب التي حكموها وقيامهم باستنزاف ثرواتها ومواردها مما زاد في كراهية الشعوب لهم وجعلها تتحين الفرص المناسبة للخلاص من نيرهم
خامسا
ازدياد قوة العُمانيين وثقتهم بأنفسهم وتفوقهم في الملاحة البحرية إذ أدرك العُمانيون حقيقة الصراع بينهم وبين البرتغاليين انه صراع بحري أولاً وقبل كل شيء.. ولذا فقد اعدوا أسطولاً بحرياً مدرباً ومنظماً أمكنهم أن يتغلبوا على أهم نقاط القوة لدي البرتغاليين وكان من أهم العوامل التي أدت إلى القضاء على النفوذ البرتغالي في عُمان والمحيط الهندي
سادساً
الوحدة الوطنية باعتبارها الدرس الأول الذي التزم به ناصر بن مرشد وبغير الوحدة لن تتحقق المصالح العليا للبلاد، وفي سبيل الالتزام بهذا المبدأ خاض الإمام حروباً ضارية ضد أنصار التجزئة كما سبق القول
سابعاً
عناية اليعاربة باستثمار كل مقومات النجاح، وكانت الزراعة في مقدمة اهتماماتهم حيث شقت الأفلاج وتم جلب كثير من المحاصيل الزراعية من شرق أفريقيا ونجاح تجربة زراعتها بشكل ملحوظ مما أوجد رواجاً اقتصادياً
ثامناً
عناية اليعاربة بتوفير كل مقومات النجاح لحركة التجارة بعد أن تم القضاء على سياسة الاحتكار التي ابتدعها البرتغاليون وباتت التجارة العُمانية جزءً من حركة التجارة الدولية وهو ما عاد على عُمان بفوائد اقتصادية مهمة
أسباب كثيرة كما نرى أدت وساعدت على القضاء على النفوذ البرتغالي سواء في عُمان أو في الساحل الشرقي لأفريقيا، بل وفي المحيط الهندي كله وكما رأينا فقد كان للعُمانيين في عهد اليعاربة الدور الهام في القضاء على الوجود البرتغالي الذي استمر قرابة قرن ونصف من الزمان
وكما كان هنالك أسباب أدت إلى القضاء على النفوذ البرتغالي، فهنالك أيضاً نتائج على درجه كبيرة من الأهمية ترتبت على ذلك وعلى خروجهم من عُمان بالذات وأثرت تأثيراً عميقاً على المنطقة كلها، ويمكن إجمال هذه النتائج فيما يلي
أولاً
إن نجاح العُمانيين في إجلاء البرتغاليين من أرضهم قد رفع روحهم المعنوية وأشعرهم بقوتهم وبمدى ما يمكن أن يقوموا به وهيأت لهم هذه الفرصة أن يلعبوا دوراً بارزاً في النشاط البحري في المنطقة ولا سيما منذ منتصف القرن السابع عشر وحتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر
ثانياً
افلح العُمانيون في القضاء على سياسة الاحتكار التي انتهجها البرتغاليون وحققوا مبدأ حرية التجارة لجميع الأجناس، فعاد الانتعاش الاقتصادي إليهم وساعدهم هذا على أن يصبحوا قوة مؤثرة في منطقتهم بل وفي شرق أفريقيا كذلك
ثالثاً
تطلع الفرس في أن يحلوا محل البرتغاليين وان تكون لهم الزعامة الإقليمية عن طريق إقامة نسيج متداخل من تضارب المصالح مع الفرس والبريطانيين تارةً وتوافقها تارةً أخرى
وهكذا نرى أن هنالك نتائج عديدة وهامة نتجت عن طرد البرتغاليين من الخليج، وكانت الوحدة الوطنية التي حققها اليعاربة الأوائل هي محور الزوايا في هذا النجاح العظيم، وأيضاً تحقيق كثير من الإنجازات الداخلية التي تمت في عهد اليعاربة الأوائل، وفي عهد من خلفهم من الأئمة وأولهم بلعرب بن سلطان بن سيف الذي بويع بالإمامة بالإجماع (يوم الجمعة 16 من ذي القعدة 1091هـ / منتصف ديسمبر1680م) وقد سار سيرة حسنة، وكان جواداً كريماً وعمر بلدة جبرين وعمق فلجها واستصلح أراضيها. وقام ببناء حصن جبرين الشهير واعتنى به اعتناءاً كبيراً من حيث هندسة بنائه وزخرفته وتحصيناته وتقسيماته واتخذه مقاما له ومركزا لدولته، كما انشأ فيه مدرسة ارتادها الطلاب لتحصيل العلم والمعرفة
وهكذا كانت السنوات الاولى من فترة حكم الإمام بلعرب استمراراً لفترة الازدهار والاستقرار والرخاء التي أنعمت بها عُمان في عهد دولة أبيه الإمام سلطان بن سيف، ولذلك حافظ الإمام بلعرب على الدولة التي وليها بعد أبيه، واستمر في سياسة الإعمار والبناء، ألا انه في السنوات الأخيرة من فترة حكمه خرج عليه أخوه سيف بن سلطان مطالباً إياه باعتزال الحكم، ومن ثم بدأت عوامل الهرم تسري في هذه الدولة منذ تلك الفترة، وبدأت تسير في غير المسار الذي كانت عليه بالنسبة لعملية اختيار القادة وتوليتهم في عهد اليعاربة، وابتلي أهل عُمان بخروج سيف على أخيه الإمام المنتخب، الذي خرج من نزوى متجهاً ناحية الشمال، ثم عاد إلى نزوى ولكن أهلها في تلك الفترة كانوا قد انحازوا إلى جانب أخيه سيف بن سلطان وأحالوا بينه وبين دخول المدينة، وتوجه إلى جبرين حيث حاصره أخوه سيف في هذا الحصن ولما طال أمد الحصار ورأى أكابر عُمان عجز الإمام عن التصدي لأخيه استسلموا للأمر الواقع فعقدوا الإمامة لأخيه سيف بن سلطان بن سيف بن مالك، وقد بويع بالإمامة بعد وفاة أخيه الإمام بلعرب وقد واصل الإمام سيرة سابقيه كما تابع سياسة مقاومة البرتغاليين بشرق أفريقيا والهند
لقد عمل الإمام سيف على إعمار عُمان حيث قام بحفر أفلاج جديدة تزيد على خمسة عشر فلجاً كفلج البركة وفلج البزيلي في الظاهرة وفلج الحزم وأفلاج جعلان بني بو حسن، على أن بعض هذه الافلاج كانت صغيرة وغير عميقة فعمل على تعميقها وتوسع في زراعة المحاصيل كالقمح والشعير والحلبة والخضروات، كما أهتم بزراعة قصب السكر وكان يشرف بنفسه على عملية الزراعة وسيرها، كما غرس عددا كبيرا من أشجار النخيل والفواكه كالانبا ( المانجو ) وبعض أشجار العطور والزهور كالورس والزعفران واستقدم من أفريقيا النحل ونتيجة لهذه السياسة اتسعت الأراضي الزراعية المملوكة لبيت المال وزادت إيرادات الدولة زيادة كبيرة وتوفي الإمام سيف بن سلطان في (شهر رمضان سنه 1123هـ/1711م) بعد أن وصلت عُمان في عهده درجة كبيرة من الاستقرار والامتداد إلى مناطق خارج شبة الجزيرة العربية حيث كان يمتلك قوة عسكرية ضاهت القوى الأوربية المعاصرة لها
ومن أهم الأعمال التي قام بها الإمام سلطان بن سيف الثاني تحرير البحرين من الفرس الذين كانوا قد إحتلوها، وقد مهد الإمام لتحقيق هذا الإنجاز بتقوية قبضته على بعض الجزر التي تقع في مدخل الخليج مثل جزيرة لاركا والقسم وهرمز، وكذلك على بعض المدن الفارسية الهامة مثل لنجه وبندر عباس ثم جهز جيشاً بقيادة الشيخ حمير بن سيف بن ماجد وزحف هذا الجيش على البحرين ودارت معركة كبيرة بين الفريقين كان النصر فيها للجيش العُماني مما أدى إلى خروج الفرس من البحرين وتقلص نفوذهم في الخليج، ومن أشهر الأعمال التي قام بها الإمام لتدعيم نفوذه في البحرين بناء قلعتها المشهورة والتي تسمى قلعة عراد، وقبل وفاته كان التواجد العُماني قد امتد إلى الخليج كله والساحل الهندي وشرق أفريقيا كما كانت بعض بلاد العرب على البحر الأحمر تحت نفوذه
وقد انتهت حياته بالوفاة في حصن الحزم يوم الأربعاء الخامس من جمادى الآخرة سنه(1131هـ/مايو 1718م) وبذلك دامت إمامته سبع سنوات وبضعة شهور. وبوفاته بدأ تصدع الوحدة الوطنية ونهاية دولة اليعاربة، تخللها عودة الفرس إلى عُمان بناءاً على طلب سيف بن سلطان اليعربي الذي استنجد بالفرس ليعود إمام عام (1145هـ-1732م)، وبهذا تكون بداية النهاية لعهد اليعاربة
ويعتبر نادر شاه أول من أسس من الحكام الفرس قوة بحرية في مياه الخليج واسند قيادتها إلى لطيف خان وكان هذا القائد يتطلع في توسعاته إلى الساحل العربي من الخليج، واتخذ من طلب سيف بن سلطان باباً ينفذ منه إلى احتلال عُمان وإخضاعها إلى الحكومة الفارسية، وقد رحب نادر شاه بهذه الفكرة وأمر بتشكيل قوة بحرية وبرية للتوجه إلى عُمان وبذل كل ما في وسعه لإنجاح هذه المهمة حيث أشرف بنفسه على إعدادها وتجهيزها، كما أمر بتشكيل هيئة لدراسة المنطقة تكون عوناً للقوات الفارسية ولتمدها بالمعلومات اللازمة، وكان نادر شاه يهدف من ذلك إلى ضم عُمان والبحرين إلى فارس إضافة إلى طموحاته في السيطرة التامة على مياه الخليج
وفي (منتصف ربيع الأول 1150هـ/14مارس 1737م) أبحرت القوات الفارسية المؤلفة من أربع سفن كبيرة وسفينتين متوسطتين وعدد كبير من السفن والزوارق الصغيرة بقيادة لطيف خان، واكتشف سيف فيما بعد أن هذه القوات لم تأت لمساعدته وإنما جاءت لإخضاع عُمان للسيطرة الفارسية، وفي هذه الأثناء قام بعض رؤساء القبائل بالصلح بينه وبين بلعرب بن حمير على أن يتنازل بلعرب عن الإمامة لسيف حقنا للدماء وإنقاذاً لعُمان من الغزو الفارسي
وصار سيف بن سلطان إماماً للمرة الثانية واختار الشيخ احمد بن سعيد البوسعيدي (مؤسس الدولة البوسعيدية) والياً على صحار، غير أن سيف لم يلبث أن أساء السيرة وأحدث أحداثاً مخالفة للشريعة الإسلامية، فعزله المسلمون ونصبوا سلطان بن مرشد اليعربي إماماً سنة (1154هـ/1741م) الأمر الذي أغاظ سيفاً فجعله يستنجد بالفرس للمرة الثانية، وقد بعث نادر شاه إمدادات أخرى لقواته بقيادة محمد تقي خان وقد وعد سيف بن سلطان الحكومة الفارسية بأنه سوف يقدم ولاء الطاعة ويعترف بالسيادة الفارسية على عُمان ويدفع الضرائب والإتاوات لها إذا تمكنت من إعادة حقوقه
وعلى الرغم من التجارب السابقة لسيف بن سلطان مع القوات الفارسية التي جاءت إلى عُمان بزعم نصرته ولكنها ما جاءت إلا لتحقيق أهداف توسعية. وبهذا فانه فقد ثقة العُمانيين ومنهم بعض أعوانه المقربين.. أما الإمام سلطان بن مرشد فقد سار إلى صحار ليتعاون مع واليها أحمد بن سعيد البوسعيدي لمواجهة قوات نادر شاه.
وان دلت هذه الأحداث التي جرت في عُمان من الخلافات الأسرية والعصبية القبلية والتدخل الفارسي على شيء فإنما تدل على أن أسرة اليعاربة التي استطاعت أن تجعل عُمان تتمتع بالازدهار والنمو الاقتصادي طيلة قرن من الزمان، قد وصلت إلى نهايتها بسبب مغامرات القادة الأواخر وسوء تصرفاتهم
هذا وقد توفي الإمام سلطان بن مرشد في حصن صحار حيث يوجد أحمد بن سعيد نتيجة إصابته في مواجهة مع الفرس، أما سيف بن سلطان المخلوع فقد توفي بعد ذلك بقليل بعد أن لام نفسه على فعلته الشنعاء وظهر له أن الفرس لم يأتوا لمساعدته وإنما للاستيلاء على عُمان وأصابه من ذلك هم وحزن ولكن بعد فوات الأوان، وكان على أحمد بن سعيد أن يظل في الساحة في مواجهة الفرس الذين كانوا محاصرين صحار ومسقط
وقد استمر حصار القوات الفارسية لمدينة صحار تسعه أشهر واستطاع واليها احمد بن سعيد أن يقاوم الغزاة على الرغم من أن إمداداته قد أوشكت على النفاذ وظلت القوات الفارسية تقذف المدينة ليلاً ونهاراً بالمدافع الثقيلة، فاضطر أحمد بن سعيد إلى طلب الهدنة وعقدت إتفاقية بين الجانبين الفارسي والعُماني في جمادى الأولى (1155هـ/يوليو1742م) بعد أن فقد الأمل في وصول إمدادات من قبل القبائل العُمانية
ولم تكن هذه الاتفاقية استسلاماً كما ذكرت بعض المصادر المحلية وغيرها، وإنما كانت انتصار للعُمانيين وكان الوالي أحمد بن سعيد يهدف من وراء هذه الاتفاقية إلى عدة أمور منها
(1) وقف إراقة دماء المسلمين بعد أن نفذت جميع المؤن والعتاد والذخائر الحربية الموجودة في الحصن
(2) إعادة بناء قواته استعداداً لمواجهة الجولة الثانية بهدف التحرير لشامل
(3) بعد وفاة الإمام سلطان بن مرشد شغر منصب الإمامة حيث وجد الوالي احمد بن سعيد أن أسرة اليعاربة لا يمكنها الاستمرار في إدارة الدولة فخشي أن يحتدم الصراع وتشتد الفتن في عُمان نتيجة لهذا الفراغ السياسي وخاصة إذا ما استمرت المعارك مع الفرس
(4) إعادة توحيد الأقاليم والمدن العُمانية التي أصبحت منقسمة إلى شبه دويلات وإمارات صغيرة، حتى يمكنه مواجهة الفرس على رأس جبهة قوية موحدة
وبذلك نجح احمد بن سعيد في توطيد مركزه وضمن تأييد القبائل العُمانية، هذا إلى جانب أن الحكومة الفارسية قد اعترفت رسمياً به كحاكم لعُمان حيث أصبح الطرف الرئيسي في هذه الاتفاقية.
وهكذا تزعم أحمد بن سعيد حركة التحرير ضد الفرس، كما أحس شيوخ عُمان أن الأوضاع قد ساءت وان عُمان بحاجة إلى إمام قوي يستطيع أن يوحد البلاد ولا سيما أن المذهب الأباضي لا يجيز وجود أكثر من إمام للدولة
وقد حاول دعاة إحياء الدولة اليعربية إعادتها بعد وفاه سيف بن سلطان فاجتمع شيوخ وأعيان نزوى وعقدوا البيعة للسيد بلعرب بن حمير اليعربي في ربيع الآخر من عام (1157هـ/1744م)، وأعلنت مجموعة من المدن العُمانية ولائها للإمام الجديد مثل بهلاء ونزوى وأزكي، بينما تحفظ البعض عن الاعتراف به، ولم يمض وقت طويل على هذا الإمام حتى انصرف عنه العُمانيون
وبذلك بدأ نجم أحمد بن سعيد يعلو في عُمان وكان محل تقدير جميع القبائل العُمانية والأعيان الذين كانوا يتطلعون إلى تحرير بلادهم من الغزاة وإعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع عُمان
وفيما يتعلق بالعلاقات الفارسية العُمانية فبعد وفاه سيف بن سلطان فقد الفرس نصيرهم وقلت همتهم وتعاظمت المشاكل والقلاقل الداخلية في فارس، حيث ان حكومة نادر شاه كانت مضطرة لسحب قسم من جنودها الرابطين في عُمان لمواجهة تلك المشاكل، وهذا سهل على أحمد بن سعيد تحقيق طموحاته
ومما هو جدير بالذكر أن أحمد بن سعيد كان سياسياً فطناً، وعلى الرغم من أن الكثير من العُمانيين قد اندهشوا لما كان يقوم به من إكرام الفرس، ألا أنهم أدركوا في النهاية ما كان يدبر للفرس لتحرير بلاده منهم حيث تم له ذلك في عام (1157هـ/1744م)، مما أدى إلى عقد البيعة بالإمامة له في نفس العام، وفي ذلك يقول ابن زريق (إن أحمد بن سعيد لما آل إليه أمر عُمان كله، وعول أهلها عليه، أجتمع أكابر الرستاق وسائر أكابر عُمان، فاتفقوا على عقد الإمامة لأبي هلال الإمام المعظم، الفاضل الممجد، أحمد بن سعيد بن محمد السعيدي الأزدي العُماني الاستقامي الأباضي المذهب، وكان ذلك في عام (1157هـ/1744م)
وبهذا تمت البيعة للإمام أحمد بن سعيد بن محمد بن سعيد البوسعيدي وقامت الدولة البوسعيدية على أنقاض الدولة اليعربية التي أسسها ناصر بن مرشد اليعربي عام (1034هـ)
قامت دولة اليعاربة في عُمان عام ( 1034 هـ / 1624 م ) نتيجة لظروف عديدة، منها أن البلاد كانت تعاني الكثير من الفوضى السياسية عند نهاية عهد النباهنة، تلك الدولة التي عمرت خمسة قرون كانت الثلاثة القرون الأولى تمثل فترة قوتها، ومع اقتراب القرن الخامس عشر بدأت عوامل الضغط تعمل في كيانها كنتاج طبيعي لانقسام الدولة إلى ممالك وكيانات ضعيفة عجلت بنهايتها
وتشير المصادر العُمانية إلى أن تاريخ النباهنة لم يكن كله ضعيفاً وإنما كانت هنالك فترات قوة، حيث حكم عُمان بعض الحكام العظام، لعل أشهرهم فلاح بن محسن
وبينما كان البرتغاليون يجهزون على كل القوي الإقليمية كانت عُمان تشهد مولد عهد جديد وزعامة جديدة
فقد ظهر ناصر بن مرشد كأول أمام لدولة اليعاربة، وقد استطاع هذا الإمام أن يستوعب كل أبعاد القضية، وان يدرك المتغيرات الجارية من حوله سواء على المستوى العُماني أو على مستوى المنطقة بشكل عام، وقدر كل أبعادها حيث اعتقد أن مواجهة البرتغال لا يمكن أن تكون حاسمة إلا إذا استند إلى جبهة وطنية متراصة ومتماسكة، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا إذا خاض حروباً ضارية في سبيل توحيد كل القبائل العربية
وبما أن منطقة الرستاق هي التي شهدت بعثة إمامة ناصر بن مرشد فقد كان عليه أن يبدأ بها، ولهذا مضى ومعه جمع من أنصاره نحو قلعة الرستاق وكان المالك للرستاق ابن عمه مالك بن أبي العرب اليعربي، وبعد حصار لم يدم طويلاً فتحها الإمام
ونظراً لثقل المهمة التي كان يقوم بها الإمام ناصر بن مرشد واستعداداً لحروب قد تطول أكثر مما كان يتوقع، لذا فقد كان يقيم في المناطق التي كان يدخلها حصناً أو قلعة بعد أن يترك أحدا من أتباعه لكي يواصل مهمته في ترسيخ مبادئه ومواصلة دعوته التي أخذت تنساب في كل أرجاء عُمان، وقد حققت هذه السياسة تعاظم نفوذ الإمام إضافة إلى عدالته التي كانت مضرب المثل مما دفع المترددين إلى القدوم إليه طالبين بسط سلطته العادلة
ومما يؤكد صعوبة المهمة التي مضى الإمام في سبيل تحقيقها كثرة الممالك التي أقيمت على مقومات قبلية بحيث يصعب التمييز فيها بين القبيلة والحكومة، وذلك أن الحكم كان بيد شيخ القبيلة الذي كان يطلق عليه تجاوزا ملكاً أو أميراً، أما فكرة الدولة القومية الواحدة والإدارة المركزية فهي من المفاهيم التي لم تتعود عليها القبائل في تلك الفترة
لعل الإمام ناصر كان يعول أهمية كبيرة على نزوى ولذا فبمجرد أن فتحها فضل أن يتريث لبعض الوقت ويبدو انه كان يتوقع توافد القبائل عليه تجنباً لإراقة الدماء وقد تحقق ما توقعه الإمام
ومن الظواهر اللافتة للنظر في سياسة الإمام انه كلما حقق قدراً لا باس به من الوحدة راح يتريث ترقباً لرد فعل قد يحول دون الحرب، ولعلها فرصة لإعادة ترتيب جنده ومحاولته العودة لتفقد المناطق التي دخلت في حوزته، وهي سياسة حكيمة تتعدد فوائدها على كل المستويات
وهكذا استطاع الإمام ناصر بن مرشد خلال سنوات حكمه والتي امتدت حتى(1059هـ/1649م)، أن يحقق لعُمان تماسكها. وكانت محاولاته نحو الوحدة باعثة على تحقيق الأمل الكبير الذي افتقرت إليه البلاد منذ زمن طويل، وينفرد الإمام ناصر بن مرشد بين أئمة اليعاربة بتصديه لهذا الكم الهائل من المشكلات حيث حارب في جبهتين (الساحل والداخل) وعند وفاته في (ربيع الثاني 1059هـ /23 ابريل 1649م) كانت القبائل العُمانية تحت لواء واحد، وعموماً فان فترة الإمام ناصر بن مرشد تعتبر من أغنى وأخصب الفترات في تاريخ اليعاربة، ويعد دوره في سبيل الوحدة الوطنية أساساً لكل الانتصارات اللاحقة ضد البرتغاليين
وإذا كانت عُمان منذ (1034هـ/1624م) وحتى وفاة الإمام ناصر بن مرشد (1059هـ/ 1649م) قد واجهت حروباً أهلية طاحنة إلا أنها استطاعت أن تخرج منها أكثر تماسكا وقوة وبدأت مرحلة جديدة من الوحدة في ظل حكومة مركزية وانتهى العهد الذي كانت فيه مقسمة إلى دويلات صغيرة تحت رئاسة ملوك ضعاف ارتضوا أن يحكموا دويلات هزيلة، بدلا من أن تقوى بلادهم وتتحد
وإذا كان الإمام ناصر بن مرشد قد أنجز تحقيق الوحدة الوطنية، إلا أن الوجود البرتغالي على السواحل العُمانية كان في حاجة إلى إمكانيات جديدة تفوق الإمكانيات التقليدية التي استخدمها اليعاربة في سبيل القضاء على الحروب الأهلية والانصياع لسلطة الدولة الموحدة، لقد وقعت كل المعارك التي خاضها الإمام ناصر بن مرشد من أجل الوحدة على اليابسة، أما البرتغاليون فقد كانوا أهل بحار، وطريقتهم في الحرب اعتمدت على السفن التي شهدت طفرة كبيرة منذ الكشوف الجغرافية، ولذا فان سياستهم الاستعمارية اعتمدت على احتلالهم لكثير من المدن والقلاع والحصون التي تقع في طريق البحار والمحيطات دون اللجوء إلى التعمق في اليابسة والذي لا يتناسب وإمكاناتهم البشرية
أدرك اليعاربة مقدرة عدوهم القادم من أقصى الطرف الأوربي كدولة بحرية خاضت معارك طاحنة في سبيل الحفاظ على مكانتها، ولذا فقد كانت العناية بالأسطول وتنمية الموارد الاقتصادية من الركائز الأساسية التي اعتمد عليها اليعاربة، ولذلك فقد طوروا أسطولهم التجاري والعسكري مستفيدين من خبرة الدول الأكثر تقدماً في هذا المجال وخصوصاً شركة الهند الشرقية البريطانية، حيث أقاموا معها علاقات طيبة مستفيدين من تنافسها مع السياسة البرتغالية في تلك الفترة قبل أن تنشأ سياسة الوفاق الجديدة
وبمجرد أن انشأ الإمام ناصر بن مرشد اسطوله وانتهى من القضاء على جميع القوى المحلية المناوئة ألقى بكل ثقله في محاربة البرتغاليين حيث انتزع منهم صور وقريات، على يد ابن عمه سلطان ابن سيف اليعربي
ويبدو أن انتزاع صور وقريات لم تكن مهمة سهلة، فقد كان التباين واضحاً بين حجم وكفاءة القوتين المتنافستين، إضافة إلى أن الوحدة الوطنية لم تكن قد تحققت بما يتناسب وأعباء المواجهة التي كانت تقضي بقدر كبير من الانسجام والتفاهم خصوصاً وان البرتغاليين كانوا قد استردوا أنفاسهم منذ أن طردوا من هرمز 1622م بسبب انشغال القبائل بالحروب الأهلية وقبل كل ذلك قد استجدت على مسرح الأحداث سياسة وفاق جديدة بين البرتغال وشركة الهند الشرقية بدءاً من عام (1044هـ/1634م)، تحولت إلى صداقة متينة وتعاون بين الطرفين وخصوصاً بعد أن استرد البرتغاليون استقلالهم من أسبانيا عام (1050هـ/1640م)
ومنذ عام (1050هـ/1640م ) بدأ ناصر بن مرشد يجني ثمار الوحدة الوطنية فبمجرد أن علمت القبائل بحصار صحار أخذت تستنفر همم شبابها الذين شاركوا في بناء القلعة، وخصوصاً من مناطق لوى وبات وكافة المناطق المتاخمة لصحار، وبينما ضرب العُمانيون حصاراً منيعاً حول صحار، كانت سرية أخرى قد وصلت إلى مسقط بأمر الإمام، وعلى الرغم من أن تلك السرية لم تحقق نتائج حاسمة، إلا أنها أربكت القوات البرتغالية، سواء في صحار أو مسقط مما مهد لسلسلة من الهجمات العُمانية الخطيرة ضد كافة المعاقل البرتغالية
ففي عام(1053هـ/1643م) استولى الإمام ناصر بن مرشد على مدينة صحار وبنى بها حصناً مقابلاً للحصن الذي يسيطر عليه البرتغاليون، كما نجح العُمانيون في الحصول على عدد من السفن المتقدمة، وكذا الذخيرة والبارود من الإنجليز مما ضاعف من حجم العمليات العسكرية ضد القواعد البرتغالية، وعموماً فلم يصل حجم المساعدات البريطانية لعُمان بما يتناسب وامكانات البرتغال مثل ما حدث في اتفاقية ميناب عام( 1032هـ/1622م)، حيث حاربت بريطانيا بجانب الفرس لتحرير هرمز أما اليعاربة فقد حاربوا في ظروف مختلفة حيث لم يستعينوا بقوة أجنبية إضافة إلى أن البرتغال أثناء طردها من هرمز كانت في ظل التبعية الأسبانية في حين أن العُمانيين قد تضاعف جهودهم بشكل ملحوظ بعد أن استردت البرتغال استقلالها
وعند وفاة ناصر بن مرشد لم يبق تحت السيطرة البرتغالية إلا مسقط ومطرح وحصن لهم في صحار، وقد حاول الإمام ناصر أن يسترد هاتين المدينتين وبعث بمسعود بن رمضان على رأس جيش بهدف تحريرهما، وتمكن مسعود بن رمضان من الوصول إلى مطرح وضرب عليها حصاراً في وقت تفشى فيه مرض الطاعون وأصيب البرتغاليون بهلع شديد
ولم يؤد هذا الحصار إلى تحرير مسقط ومطرح وإنما نجم عنه إبرام هدنة جاءت معظم بنودها في صالح العُمانيين.
وقد تضاعفت طموحات العُمانيين وأدركوا أنهم قاب قوسين أو أدنى من تحرير بلادهم من احتلال دام أكثر من مائة وأربعين عاماً، وبوفاة الإمام ناصر بن مرشد كان العُمانيون قد وضعوا أقدامهم عند نهاية الطريق بعد رحلة طويلة من الجهاد والتضحيات وامتد جهادهم إلى جلفار (رأس الخيمة) التي كان البرتغاليون يحتلون إحدى قلاعها بينما الفرس بقيادة ناصر الدين الفارسي يحتلون القلعة الثانية
بويع الإمام سلطان بن سيف (1059هـ -1649م) بعد وفاة الإمام ناصر بن مرشد ومن البداية أخذ الإمام الجديد يعد العدة للقضاء على البرتغاليين وأدرك أهمية الوقت كعامل هام في الإجهاز عليهم وخصوصاً بعد أن نما إلى علمه إن عدد جنودهم قد نقص نقصاً كبيراً بسبب حملات برتغالية كانت قد أرسلت إلى الهند اعتقاداً بأن موت الإمام ناصر بن مرشد يعد سبباً كافياً لإرجاء أي نوايا عدوانية نحو مسقط ومطرح، إلا أن سلطان بن سيف لم يمكث إلا أياماً قليلة وأسرع متخذاً من طوى الرولة قاعدة للهجوم الشامل عليهم، بينما تحصن البرتغاليون بقلاع وأسوار عالية، حيث رابط جنودهم بعد أن ثبتوا مدافعهم الثقيلة في كل اتجاه، وزيادة في الحيطة فقد حفروا خندقاً عميقاً حول الأسوار، كما بنوا على رؤوس الجبال المحيطة بمسقط ومطرح مجموعة أبراج ثبتوا في داخلها جنوداً أشداء أخذوا يمطرون القوات العُمانية بوابل من نيران مدافعهم
وكانت الحرب سجالاً بين الفريقين، فلم تكن للبرتغاليين قدرة على مواجهة العُمانيين ولم يكن للعُمانيين قدرة دخول مسقط ومطرح، وأعتمد الجيشان على القنص كلما أتيحت الفرصة لذلك. وهكذا طالت الحرب حتى كاد سلطان بن سيف أن يتراجع عن حصاره، وخصوصاً بعد أن نما الى علمه أن بعض القبائل بدأت تفكر في التراجع عن مساندته
ولكن حدث شيء لم يكن في الحسبان، إذ أن الإمام سلطان بن سيف قد تلقى معلومات على غاية من الأهمية من العرب القاطنين حول مسقط، مكنته من دخول المدينة ولا يستبعد أن تكون هذه المعلومات كانت تعبر عن حقيقة الأوضاع داخل المدينة خصوصاً عند (نهاية ذي الحجة 1059هـ/ ديسمبر1649م) وهو موعد رأس السنة الميلادية، حيث لم تكن هناك ثمة مراقبة دقيقة مما سهل على العرب مهمة التسلل إلى داخل مسقط، وأطلعوا على أحوال البرتغاليين ونقلوا إلى الإمام ما رأوه، ولم تلبث قوات الإمام أن حاصرت البرتغاليين في قلعة الجلالي، وبعد أن نفذت مؤونتهم اضطروا إلى التسليم وتركوا القلعة، وهذا ما حدث في مطرح أيضاً ولم يبق للبرتغاليين غير سفينتين كانت تحاصران مسقط إلا أن العُمانيين تمكنوا من أسرهما، وعندما وصلت هذه الأخبار إلى السلطات البرتغالية في الهند أسرعت بإرسال أسطول برتغالي كبير ولكنه وصل متأخراً، فقد كانت القلاع وكل الحصون البرتغالية قد تهاوت وسقطت في يد العُمانيين، وأصيب البرتغاليون بخسائر جسيمة، حيث قتل معظم جنودهم، وكل المحاولات التي قاموا بها في الهند لإمداد مسقط باءت بالفشل وبنهاية (1063هـ/1652م) لم يبق البرتغاليون في الخليج، إلا وكالتهم في كنج على الساحل الشرقي من الخليج
ومع ذلك فلم يفقد البرتغاليين الأمل في استعادة ساحل عُمان، حيث راحوا يدعمون مركزهم في كنج بل واخذوا يتفاوضون مع الفرس على السماح لهم بإنشاء وكالة تجارية في جزيرة هانجام، إلا أن الشروط الفارسية كان مبالغاً فيها، ولذا فقد رفض البرتغاليون العرض الفارسي، ويؤكد لوريمر أن سبب رفض البرتغاليين للعرض الفارسي هو تطلعهم إلى الساحل العربي، حيث كانت تبذل محاولات في هذا الصدد
لم يكتف العُمانيون بطرد البرتغاليين من سواحل عُمان بل شنوا عليهم حرباً تمثلت في سلسلة من الغارات ضدهم في المحيط الهندي براً وبحراً، وتعرضت المواقع البرتغالية في الهند إلى تلك الهجمات:- بومباي في(1072هـ/1661م) وديو في(رجب1079هـ/نوفمبر1668م) وفي شوال( 1086هـ/الموافق يناير1676م)، وكــذلك في (سنــة1081هـ/المـوافق1670م)، وبــاسين Bassein فــي (1085هـ/الموافق1674م) وامتدت المعارك لتشمل غرب المحيط الهندي حيث خاض الطرفان صراعاً طويلاً للسيطرة على شرقي أفريقيا، فقد اتصل سكان زنجبار الذين ربطتهم عوامل دينية وقومية مع العُمانيين بالإمام سلطان بن سيف من اجل تحريرهم من الاستعباد البرتغالي وبالرغم من الانتصارات التي حققها الإمام سلطان بن سيف في مياه زنجبار، الا أن الجلاء البرتغالي لم يتم إلا في عهد الإمام سيف بن سلطان الذي وضع حجر الأساس لبحرية عُمان الشهيرة التي سيطرت على جميع الساحل الإفريقي الشرقي من (ممباسة) إلى (كلوه) إذ سيطر العُمانيون على ممباسة (1110هـ/1698م) وسيطروا على بيما وزنجبار وبته Patta وكلوه، وكانت (موزمبيق) هي الوحيدة التي قاومت الأسطول العربي العُماني وبقيت بأيدي البرتغاليين إلى القرن العشرين، وقد حاول البرتغاليين استعادة مراكزهم البحرية الضائعة وقاموا بهجوم موحد على زنجبار ومسقط في آن واحد عام (1142هـ/1729م) ولكنهم أصيبوا بهزيمة منكرة، وبذلك انهارت آمال البرتغال في استعادة سيادتها على الخليج والمحيط الهندي، وامتد نفوذ عُمان من جنوب الجزيرة العربية وسواحل شرقي أفريقيا في الغرب إلى سواحل وادي السند في الشرق
وفي هذه الفترة أصبحت مسقط تتمتع بـ(مركز التوزيع التجاري الرئيسي) لمنطقة الخليج، فأصبحت واحدة من المواني الرئيسية في المحيط الهندي وسواحل الخليج وإيران والعراق والجزيرة العربية، وفي حدوده الغربية امتد هذا النفوذ إلى البحيرات الأفريقية المركزية، وفي الشرق لامس دلتا الكنج
وهكذا ظهرت قوة عُمان بعد القضاء على الهيمنة البرتغالية بشكل بات يخشاه الجميع، فقد أصبحت السفن العُمانية هي التي تبحث عن سفن الأعداء في مياه الخليج والمحيط الهندي، واضطرت السفن الهولندية والإنجليزية إلى تعزيز دفاعاتها تخوفاً من عرب عُمان، وقد عبر المقيم البريطاني في بندر عباس عن مخاوفه من تنامي قوة عُمان بقوله سنة (1106هـ/1694م): "إنهم سيثبتون أنهم كارثة كبرى في الهند كالجزائريين في أوروبا"
وقد أشارت السلطات الصفوية أيضاً إلى تفوق العُمانيين في هذه الفترة من خلال مذكرة رفعتها إلى الحكومة الفرنسية جاء فيها: (أن تمتعهم بموقع جغرافي مهم يتيح لهم الفرصة للسيطرة على الخليج وهذا يفسر قوة العُمانيين الذين تمكنوا بما يناهز الثلاثين قارباً من الاستيلاء على الغنائم)
ذلك أن الانتصارات التي حققها اليعاربة أثارت فارس التي كانت تتطلع إلى وراثة النفوذ البرتغالي، ولذا فقد تعددت المواجهات العُمانية الفارسية والتي جاءت في صالح اليعاربة، بدرجة أن التجارة الفارسية أصيبت بضرر بالغ مما دفع بالفرس إلى الاستعانة بالقوى الأوروبية بهدف القضاء على منافسة عُمان لها في هذا الميدان واتصلوا بالإنجليز لتحقيق هذا الهدف
وإذا كان الإنجليز لم يتحمسوا للعرض الفارسي خوفاً على مصالحهم الاقتصادية من الأسطول العُماني، فقد توجهت فارس إلى فرنسا على عهد لويس الرابع عشر وتمخضت الاتصالات عن توقيع معاهدة بينهما في عام (1119هـ/1707م) وكان من بين النصوص السرية التي احتوتها تلك المعاهدة أن يقوم الفرنسيون بإرسال أسطول لمساعدة فارس في غزو مسقط، إلا أن فرنسا ترددت قبل الإقدام على تلك الخطوة بنفس السبب الذي منع الإنجليز من تضامنهم مع فارس، على الرغم من الدبلوماسية النشطة التي مارسها الفرس في محاولة للضغط على لويس الرابع عشر.. وعموما فلم تسفر الاتصالات عن قيام تحالف فارسي فرنسي على الرغم من إبرام اتفاقية جديدة في عام (1127هـ/1715م)، ولعل ما حال دون أقدام فرنسا على تنفيذ بنود المعاهدة الجديدة تلك الفوضى التي اجتاحت فارس وما ترتب عليها من غزو أفغاني لها في عام (1135هـ/1722م)، كانت البرتغال قد أدركت في تلك الفترة أن زمن الضعف العربي قد ذهب وان مواجهة اليعاربة في كل مراحل الصراع قد باءت بالفشل وان استمرار الوضع يعني ضياع كل الممتلكات البرتغالية على سواحل الهند وشرق أفريقيا ولذا فقد راحوا ينسقون مع الفرس في محاولة لقيام تحالف عسكري يكون قادرا على ضرب اليعاربة
وقد أدرك سلطان بن سيف خطورة هذا التحالف الجديد، ولذا فقد عجل بضرب البرتغاليين وتصفية نفوذهم، وقسم أسطوله إلى قسمين أحدهما توجه إلى شرق أفريقيا حيث نجح في انتزاع ممباسا (1110هـ/1698م) تمهيداً لانتزاع الجزيرة الخضراء وكلوه. أما القسم الآخر من الأسطول فقد توجه إلى الهند، حيث نجح في تدمير الوكالة البرتغالية في مانجالور على الساحل الهندي
وهكذا استطاع اليعاربة كسر شوكة البرتغاليين وإنهاء سيادتهم الاحتكارية والقضاء على مراكزهم الاستراتيجية سواء على الشاطئ الأفريقي أو على سواحل الهند، ويقرر المؤرخ الإنجليزي كوبلاندCoupland إن البحرية العُمانية مع مطلع القرن السابع عشر وصلت إلى درجة من القوة يحسب حسابها من مثل الأساطيل الإنجليزية والهولندية . وبكل المقاييس فقد نجح العُمانيون وحتى نهاية عهد سلطان بن سيف الثاني عام (1130هـ/1718م) في إيجاد قدر كبير من التوازن الدولي انعكست نتائجه على كل المستويات، وترك انطباعاً هائلاً لدي الأوربيين عن هيبة الدولة، حيث عملت العديد من القوى الأوربية على كسب ودها، ولعل الازدهار الاقتصادي الذي وصلت إليه دولة اليعاربة ومكانة أسطولها البحري كان نتاجاً طبيعياً لقوة الدولة وحجم ثقلها البحري في كافة البحار الشرقية، في ظل جو مناسب من الألفة لدى عناصر السكان في عُمان، وبات الناس في أمن على حياتهم وارزاقهم
وإذا كان اليعاربة قد نجحوا كل النجاح في تحقيق هذا الازدهار الذي يترتب على انهيار النفوذ البرتغالي وكسر احتكاره لتجارة المنطقة، فأن من المفيد في هذا المجال أن نعرض للأسباب التي أدت إلى انهيار هذا النفوذ ومكن اليعاربة من هذا النجاح، والحقيقة فإن الأسباب التي عجلت بانهيار النفوذ البرتغالي في عُمان والخليج عديدة منها
أولاً
طبيعة الاستعمار البرتغالي للمنطقة التي كانت ترتكز على سلسلة من القواعد العسكرية الواقعة على الطريق البحري بين الهند والبرتغال، فلم يتوغل البرتغاليون في عمق البلاد التي استعمروها، وما كانوا يستطيعون ذلك لقلة عدد سكان البرتغال, ولاتساع إمبراطوريتهم وكان الإبقاء على تلك القواعد في أيديهم مرهون بقوة البحرية البرتغالية فلما ضعفت ضاع كل شيء
ثانياً
كانت حركة المد البرتغالي تمثل الموجة الاستعمارية الاولى المتعطشة للغزو ونهب ثروات الشعوب وكان الميدان خالياً أمامها، فلما دخلته قوى أوروبية أخرى أكثر منها قوة مثل هولندا وبريطانيا وفرنسا، ولا تقل عنها تطلعاً في أن يكون لها نصيب في الغنيمة يتفق مع ثقلها السياسي والعسكري، لم تقو البرتغال على الصمود أمام هذه القوى الطامعة
ثالثا
حسن اختيار العُمانيين للظروف الدولية المناسبة لتوجيه ضرباتهم القاضية ضد الوجود البرتغالي في عُمان فالتنافس الذي ساد العلاقات بين البرتغاليين من جهة والفرس والهولنديين والإنجليز من جهة أخرى، ورغبة الفريق الثالث في القضاء على النفوذ البرتغالي وإبعادهم عن الخليج ساعد العُمانيين إلى الحد الكبير
رابعا
اتبع البرتغاليون سياسة الشدة والبطش في معاملاتهم للشعوب التي حكموها وقيامهم باستنزاف ثرواتها ومواردها مما زاد في كراهية الشعوب لهم وجعلها تتحين الفرص المناسبة للخلاص من نيرهم
خامسا
ازدياد قوة العُمانيين وثقتهم بأنفسهم وتفوقهم في الملاحة البحرية إذ أدرك العُمانيون حقيقة الصراع بينهم وبين البرتغاليين انه صراع بحري أولاً وقبل كل شيء.. ولذا فقد اعدوا أسطولاً بحرياً مدرباً ومنظماً أمكنهم أن يتغلبوا على أهم نقاط القوة لدي البرتغاليين وكان من أهم العوامل التي أدت إلى القضاء على النفوذ البرتغالي في عُمان والمحيط الهندي
سادساً
الوحدة الوطنية باعتبارها الدرس الأول الذي التزم به ناصر بن مرشد وبغير الوحدة لن تتحقق المصالح العليا للبلاد، وفي سبيل الالتزام بهذا المبدأ خاض الإمام حروباً ضارية ضد أنصار التجزئة كما سبق القول
سابعاً
عناية اليعاربة باستثمار كل مقومات النجاح، وكانت الزراعة في مقدمة اهتماماتهم حيث شقت الأفلاج وتم جلب كثير من المحاصيل الزراعية من شرق أفريقيا ونجاح تجربة زراعتها بشكل ملحوظ مما أوجد رواجاً اقتصادياً
ثامناً
عناية اليعاربة بتوفير كل مقومات النجاح لحركة التجارة بعد أن تم القضاء على سياسة الاحتكار التي ابتدعها البرتغاليون وباتت التجارة العُمانية جزءً من حركة التجارة الدولية وهو ما عاد على عُمان بفوائد اقتصادية مهمة
أسباب كثيرة كما نرى أدت وساعدت على القضاء على النفوذ البرتغالي سواء في عُمان أو في الساحل الشرقي لأفريقيا، بل وفي المحيط الهندي كله وكما رأينا فقد كان للعُمانيين في عهد اليعاربة الدور الهام في القضاء على الوجود البرتغالي الذي استمر قرابة قرن ونصف من الزمان
وكما كان هنالك أسباب أدت إلى القضاء على النفوذ البرتغالي، فهنالك أيضاً نتائج على درجه كبيرة من الأهمية ترتبت على ذلك وعلى خروجهم من عُمان بالذات وأثرت تأثيراً عميقاً على المنطقة كلها، ويمكن إجمال هذه النتائج فيما يلي
أولاً
إن نجاح العُمانيين في إجلاء البرتغاليين من أرضهم قد رفع روحهم المعنوية وأشعرهم بقوتهم وبمدى ما يمكن أن يقوموا به وهيأت لهم هذه الفرصة أن يلعبوا دوراً بارزاً في النشاط البحري في المنطقة ولا سيما منذ منتصف القرن السابع عشر وحتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر
ثانياً
افلح العُمانيون في القضاء على سياسة الاحتكار التي انتهجها البرتغاليون وحققوا مبدأ حرية التجارة لجميع الأجناس، فعاد الانتعاش الاقتصادي إليهم وساعدهم هذا على أن يصبحوا قوة مؤثرة في منطقتهم بل وفي شرق أفريقيا كذلك
ثالثاً
تطلع الفرس في أن يحلوا محل البرتغاليين وان تكون لهم الزعامة الإقليمية عن طريق إقامة نسيج متداخل من تضارب المصالح مع الفرس والبريطانيين تارةً وتوافقها تارةً أخرى
وهكذا نرى أن هنالك نتائج عديدة وهامة نتجت عن طرد البرتغاليين من الخليج، وكانت الوحدة الوطنية التي حققها اليعاربة الأوائل هي محور الزوايا في هذا النجاح العظيم، وأيضاً تحقيق كثير من الإنجازات الداخلية التي تمت في عهد اليعاربة الأوائل، وفي عهد من خلفهم من الأئمة وأولهم بلعرب بن سلطان بن سيف الذي بويع بالإمامة بالإجماع (يوم الجمعة 16 من ذي القعدة 1091هـ / منتصف ديسمبر1680م) وقد سار سيرة حسنة، وكان جواداً كريماً وعمر بلدة جبرين وعمق فلجها واستصلح أراضيها. وقام ببناء حصن جبرين الشهير واعتنى به اعتناءاً كبيراً من حيث هندسة بنائه وزخرفته وتحصيناته وتقسيماته واتخذه مقاما له ومركزا لدولته، كما انشأ فيه مدرسة ارتادها الطلاب لتحصيل العلم والمعرفة
وهكذا كانت السنوات الاولى من فترة حكم الإمام بلعرب استمراراً لفترة الازدهار والاستقرار والرخاء التي أنعمت بها عُمان في عهد دولة أبيه الإمام سلطان بن سيف، ولذلك حافظ الإمام بلعرب على الدولة التي وليها بعد أبيه، واستمر في سياسة الإعمار والبناء، ألا انه في السنوات الأخيرة من فترة حكمه خرج عليه أخوه سيف بن سلطان مطالباً إياه باعتزال الحكم، ومن ثم بدأت عوامل الهرم تسري في هذه الدولة منذ تلك الفترة، وبدأت تسير في غير المسار الذي كانت عليه بالنسبة لعملية اختيار القادة وتوليتهم في عهد اليعاربة، وابتلي أهل عُمان بخروج سيف على أخيه الإمام المنتخب، الذي خرج من نزوى متجهاً ناحية الشمال، ثم عاد إلى نزوى ولكن أهلها في تلك الفترة كانوا قد انحازوا إلى جانب أخيه سيف بن سلطان وأحالوا بينه وبين دخول المدينة، وتوجه إلى جبرين حيث حاصره أخوه سيف في هذا الحصن ولما طال أمد الحصار ورأى أكابر عُمان عجز الإمام عن التصدي لأخيه استسلموا للأمر الواقع فعقدوا الإمامة لأخيه سيف بن سلطان بن سيف بن مالك، وقد بويع بالإمامة بعد وفاة أخيه الإمام بلعرب وقد واصل الإمام سيرة سابقيه كما تابع سياسة مقاومة البرتغاليين بشرق أفريقيا والهند
لقد عمل الإمام سيف على إعمار عُمان حيث قام بحفر أفلاج جديدة تزيد على خمسة عشر فلجاً كفلج البركة وفلج البزيلي في الظاهرة وفلج الحزم وأفلاج جعلان بني بو حسن، على أن بعض هذه الافلاج كانت صغيرة وغير عميقة فعمل على تعميقها وتوسع في زراعة المحاصيل كالقمح والشعير والحلبة والخضروات، كما أهتم بزراعة قصب السكر وكان يشرف بنفسه على عملية الزراعة وسيرها، كما غرس عددا كبيرا من أشجار النخيل والفواكه كالانبا ( المانجو ) وبعض أشجار العطور والزهور كالورس والزعفران واستقدم من أفريقيا النحل ونتيجة لهذه السياسة اتسعت الأراضي الزراعية المملوكة لبيت المال وزادت إيرادات الدولة زيادة كبيرة وتوفي الإمام سيف بن سلطان في (شهر رمضان سنه 1123هـ/1711م) بعد أن وصلت عُمان في عهده درجة كبيرة من الاستقرار والامتداد إلى مناطق خارج شبة الجزيرة العربية حيث كان يمتلك قوة عسكرية ضاهت القوى الأوربية المعاصرة لها
ومن أهم الأعمال التي قام بها الإمام سلطان بن سيف الثاني تحرير البحرين من الفرس الذين كانوا قد إحتلوها، وقد مهد الإمام لتحقيق هذا الإنجاز بتقوية قبضته على بعض الجزر التي تقع في مدخل الخليج مثل جزيرة لاركا والقسم وهرمز، وكذلك على بعض المدن الفارسية الهامة مثل لنجه وبندر عباس ثم جهز جيشاً بقيادة الشيخ حمير بن سيف بن ماجد وزحف هذا الجيش على البحرين ودارت معركة كبيرة بين الفريقين كان النصر فيها للجيش العُماني مما أدى إلى خروج الفرس من البحرين وتقلص نفوذهم في الخليج، ومن أشهر الأعمال التي قام بها الإمام لتدعيم نفوذه في البحرين بناء قلعتها المشهورة والتي تسمى قلعة عراد، وقبل وفاته كان التواجد العُماني قد امتد إلى الخليج كله والساحل الهندي وشرق أفريقيا كما كانت بعض بلاد العرب على البحر الأحمر تحت نفوذه
وقد انتهت حياته بالوفاة في حصن الحزم يوم الأربعاء الخامس من جمادى الآخرة سنه(1131هـ/مايو 1718م) وبذلك دامت إمامته سبع سنوات وبضعة شهور. وبوفاته بدأ تصدع الوحدة الوطنية ونهاية دولة اليعاربة، تخللها عودة الفرس إلى عُمان بناءاً على طلب سيف بن سلطان اليعربي الذي استنجد بالفرس ليعود إمام عام (1145هـ-1732م)، وبهذا تكون بداية النهاية لعهد اليعاربة
ويعتبر نادر شاه أول من أسس من الحكام الفرس قوة بحرية في مياه الخليج واسند قيادتها إلى لطيف خان وكان هذا القائد يتطلع في توسعاته إلى الساحل العربي من الخليج، واتخذ من طلب سيف بن سلطان باباً ينفذ منه إلى احتلال عُمان وإخضاعها إلى الحكومة الفارسية، وقد رحب نادر شاه بهذه الفكرة وأمر بتشكيل قوة بحرية وبرية للتوجه إلى عُمان وبذل كل ما في وسعه لإنجاح هذه المهمة حيث أشرف بنفسه على إعدادها وتجهيزها، كما أمر بتشكيل هيئة لدراسة المنطقة تكون عوناً للقوات الفارسية ولتمدها بالمعلومات اللازمة، وكان نادر شاه يهدف من ذلك إلى ضم عُمان والبحرين إلى فارس إضافة إلى طموحاته في السيطرة التامة على مياه الخليج
وفي (منتصف ربيع الأول 1150هـ/14مارس 1737م) أبحرت القوات الفارسية المؤلفة من أربع سفن كبيرة وسفينتين متوسطتين وعدد كبير من السفن والزوارق الصغيرة بقيادة لطيف خان، واكتشف سيف فيما بعد أن هذه القوات لم تأت لمساعدته وإنما جاءت لإخضاع عُمان للسيطرة الفارسية، وفي هذه الأثناء قام بعض رؤساء القبائل بالصلح بينه وبين بلعرب بن حمير على أن يتنازل بلعرب عن الإمامة لسيف حقنا للدماء وإنقاذاً لعُمان من الغزو الفارسي
وصار سيف بن سلطان إماماً للمرة الثانية واختار الشيخ احمد بن سعيد البوسعيدي (مؤسس الدولة البوسعيدية) والياً على صحار، غير أن سيف لم يلبث أن أساء السيرة وأحدث أحداثاً مخالفة للشريعة الإسلامية، فعزله المسلمون ونصبوا سلطان بن مرشد اليعربي إماماً سنة (1154هـ/1741م) الأمر الذي أغاظ سيفاً فجعله يستنجد بالفرس للمرة الثانية، وقد بعث نادر شاه إمدادات أخرى لقواته بقيادة محمد تقي خان وقد وعد سيف بن سلطان الحكومة الفارسية بأنه سوف يقدم ولاء الطاعة ويعترف بالسيادة الفارسية على عُمان ويدفع الضرائب والإتاوات لها إذا تمكنت من إعادة حقوقه
وعلى الرغم من التجارب السابقة لسيف بن سلطان مع القوات الفارسية التي جاءت إلى عُمان بزعم نصرته ولكنها ما جاءت إلا لتحقيق أهداف توسعية. وبهذا فانه فقد ثقة العُمانيين ومنهم بعض أعوانه المقربين.. أما الإمام سلطان بن مرشد فقد سار إلى صحار ليتعاون مع واليها أحمد بن سعيد البوسعيدي لمواجهة قوات نادر شاه.
وان دلت هذه الأحداث التي جرت في عُمان من الخلافات الأسرية والعصبية القبلية والتدخل الفارسي على شيء فإنما تدل على أن أسرة اليعاربة التي استطاعت أن تجعل عُمان تتمتع بالازدهار والنمو الاقتصادي طيلة قرن من الزمان، قد وصلت إلى نهايتها بسبب مغامرات القادة الأواخر وسوء تصرفاتهم
هذا وقد توفي الإمام سلطان بن مرشد في حصن صحار حيث يوجد أحمد بن سعيد نتيجة إصابته في مواجهة مع الفرس، أما سيف بن سلطان المخلوع فقد توفي بعد ذلك بقليل بعد أن لام نفسه على فعلته الشنعاء وظهر له أن الفرس لم يأتوا لمساعدته وإنما للاستيلاء على عُمان وأصابه من ذلك هم وحزن ولكن بعد فوات الأوان، وكان على أحمد بن سعيد أن يظل في الساحة في مواجهة الفرس الذين كانوا محاصرين صحار ومسقط
وقد استمر حصار القوات الفارسية لمدينة صحار تسعه أشهر واستطاع واليها احمد بن سعيد أن يقاوم الغزاة على الرغم من أن إمداداته قد أوشكت على النفاذ وظلت القوات الفارسية تقذف المدينة ليلاً ونهاراً بالمدافع الثقيلة، فاضطر أحمد بن سعيد إلى طلب الهدنة وعقدت إتفاقية بين الجانبين الفارسي والعُماني في جمادى الأولى (1155هـ/يوليو1742م) بعد أن فقد الأمل في وصول إمدادات من قبل القبائل العُمانية
ولم تكن هذه الاتفاقية استسلاماً كما ذكرت بعض المصادر المحلية وغيرها، وإنما كانت انتصار للعُمانيين وكان الوالي أحمد بن سعيد يهدف من وراء هذه الاتفاقية إلى عدة أمور منها
(1) وقف إراقة دماء المسلمين بعد أن نفذت جميع المؤن والعتاد والذخائر الحربية الموجودة في الحصن
(2) إعادة بناء قواته استعداداً لمواجهة الجولة الثانية بهدف التحرير لشامل
(3) بعد وفاة الإمام سلطان بن مرشد شغر منصب الإمامة حيث وجد الوالي احمد بن سعيد أن أسرة اليعاربة لا يمكنها الاستمرار في إدارة الدولة فخشي أن يحتدم الصراع وتشتد الفتن في عُمان نتيجة لهذا الفراغ السياسي وخاصة إذا ما استمرت المعارك مع الفرس
(4) إعادة توحيد الأقاليم والمدن العُمانية التي أصبحت منقسمة إلى شبه دويلات وإمارات صغيرة، حتى يمكنه مواجهة الفرس على رأس جبهة قوية موحدة
وبذلك نجح احمد بن سعيد في توطيد مركزه وضمن تأييد القبائل العُمانية، هذا إلى جانب أن الحكومة الفارسية قد اعترفت رسمياً به كحاكم لعُمان حيث أصبح الطرف الرئيسي في هذه الاتفاقية.
وهكذا تزعم أحمد بن سعيد حركة التحرير ضد الفرس، كما أحس شيوخ عُمان أن الأوضاع قد ساءت وان عُمان بحاجة إلى إمام قوي يستطيع أن يوحد البلاد ولا سيما أن المذهب الأباضي لا يجيز وجود أكثر من إمام للدولة
وقد حاول دعاة إحياء الدولة اليعربية إعادتها بعد وفاه سيف بن سلطان فاجتمع شيوخ وأعيان نزوى وعقدوا البيعة للسيد بلعرب بن حمير اليعربي في ربيع الآخر من عام (1157هـ/1744م)، وأعلنت مجموعة من المدن العُمانية ولائها للإمام الجديد مثل بهلاء ونزوى وأزكي، بينما تحفظ البعض عن الاعتراف به، ولم يمض وقت طويل على هذا الإمام حتى انصرف عنه العُمانيون
وبذلك بدأ نجم أحمد بن سعيد يعلو في عُمان وكان محل تقدير جميع القبائل العُمانية والأعيان الذين كانوا يتطلعون إلى تحرير بلادهم من الغزاة وإعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع عُمان
وفيما يتعلق بالعلاقات الفارسية العُمانية فبعد وفاه سيف بن سلطان فقد الفرس نصيرهم وقلت همتهم وتعاظمت المشاكل والقلاقل الداخلية في فارس، حيث ان حكومة نادر شاه كانت مضطرة لسحب قسم من جنودها الرابطين في عُمان لمواجهة تلك المشاكل، وهذا سهل على أحمد بن سعيد تحقيق طموحاته
ومما هو جدير بالذكر أن أحمد بن سعيد كان سياسياً فطناً، وعلى الرغم من أن الكثير من العُمانيين قد اندهشوا لما كان يقوم به من إكرام الفرس، ألا أنهم أدركوا في النهاية ما كان يدبر للفرس لتحرير بلاده منهم حيث تم له ذلك في عام (1157هـ/1744م)، مما أدى إلى عقد البيعة بالإمامة له في نفس العام، وفي ذلك يقول ابن زريق (إن أحمد بن سعيد لما آل إليه أمر عُمان كله، وعول أهلها عليه، أجتمع أكابر الرستاق وسائر أكابر عُمان، فاتفقوا على عقد الإمامة لأبي هلال الإمام المعظم، الفاضل الممجد، أحمد بن سعيد بن محمد السعيدي الأزدي العُماني الاستقامي الأباضي المذهب، وكان ذلك في عام (1157هـ/1744م)
وبهذا تمت البيعة للإمام أحمد بن سعيد بن محمد بن سعيد البوسعيدي وقامت الدولة البوسعيدية على أنقاض الدولة اليعربية التي أسسها ناصر بن مرشد اليعربي عام (1034هـ)